كما نعلم فقد كان ريتشارد بيرل يعمل فيما مضى مساعدا لوزير الدفاع الأميركي، وهو لا يزال عضوا في مجلس السياسات الدفاعية الأميركية في وزارة الدفاع البنتاجون، على رغم خسارته لمنصبه السابق. ويعد بيرل من أكثر شخصيات الإدارة الأميركية الحالية تطرفا، وأشدهم تمسكا بآيديولوجية المحافظين الجدد، التي ترسم قرارات الإدارة وتشكلها على المستويين النظري والعملي. أما زميله ديفيد فروم الذي شاركه في تأليف هذا الكتاب الذي نعرضه اليوم، فلا يقل عنه تطرفا وعصبية لنهج "العصا الغليظة" الذي يريدان له أن يكون وحده، البوصلة الهادية لسياسات الولايات المتحدة الأميركية الخارجية والأمنية والدفاعية على حد سواء. وإن كان العالم كله قد أبدى تذمرا وضيقا من سياسة الضربات الاستباقية والأحادية اللتين اتبعتهما الإدارة الحالية في حربيها ضد أفغانستان والعراق، فهنا عند هذين الكاتبين الصقرين، نقف على نظرية متكاملة قوامها تجاهل العالم كله، والتعويل المطلق على القوة الأميركية، لا سيما في جبهة الحرب على الإرهاب.
تعمل الفكرة الرئيسية في هذا المؤلف الذي يقع في حدود 304 صفحات، بمثابة مرشد نظري وتطبيقي، لكيفية خوض الحرب على الإرهاب، واجتثاث هذه الظاهرة من جذورها، سواء داخل الولايات المتحدة، أم خارجها. ما هي ملامح هذا المرشد النظري العام، وكيف لهذه الاستراتيجية الأمنية المقاتلة أن تتحقق؟ الإجابة المباشرة التي يلطم بها الكاتبان القارئ مباشرة على وجهه هي: إن على أميركا ألا تتردد مطلقا في الإطاحة بالنظام الحاكم في إيران، وفرض عقوبات مشددة على كوريا الشمالية، إلى جانب اتخاذ تدابير أمنية وعسكرية مشددة ضد كل من سوريا والصين وليبيا. إلى جانب ذلك، فإن على واشنطن أن تقف حجر عثرة أمام أي أمل لإعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، مع تأييدها الثابت والراسخ لإسرائيل. ولا تنتهي المفاصل الرئيسية لهذه الاستراتيجية هنا، بل تتعدى إلى المطالبة بقطع العلاقات مباشرة بين واشنطن والرياض. وإن كان لهذه الخطة أن ترى النور، وتصبح هاديا ومرشدا لسياسات الولايات المتحدة، فإن على هذه الأخيرة أن تصرف النظر دون تردد، عن أية أوهام تتعلق بشراكة أو تحالف مع الجزء الغالب والأعم من القارة الأوروبية.
أما تفاصيل هذه الاستراتيجية فهي تنقسم إلى مسائل وتدابير أمنية دفاعية داخلية وخارجية في وقت واحد. على صعيد الجبهة الداخلية، فإنه لابد من تبني نظام بطاقة هوية قومية بالنسبة للمواطنين الأميركيين، علاوة على ضرورة رفع أداء الأجهزة الأمنية القومية - سيما الفيدرالية منها، مثل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية " سي آي إيه" ومكتب التحقيقات الفيدرالي FBI واستشعار هذه الأجهزة لمسؤولياتها الأمنية والدفاعية، بما يتناسب وحجم الخطر الإرهابي الذي يتربص بأميركا. فلا سبيل لاستئصال شأفة الإرهاب، إلا بتعزيز أداء أجهزة المخابرات الأميركية ورفعه لأقصى مدى ممكن.
وفي هذا " المانيفستو" السياسي الاستراتيجي- إن جاز التعبير- فقد كان لابد من وجود جهة ما، يلقى عليها باللائمة، على ما تعرضت له أميركا من هزة أمنية عنيفة، اعتبارا من هجمات الحادي عشر من سبتمبر. كان الحائط القصير كما هو متوقع من الكاتبين، هو حائط الديمقراطيين المتهمين دائما بالتفريط في أمن البلاد، سيما إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون، التي كثيرا ما وجهت إليها اتهامات "الخيانة الأمنية" صراحة من قبل عدد كبير من الصقور المتشددين. غير أن لسان السوط والنقد، طال عند الكاتبين كذلك، أداء الأجهزة الاستخبارية في ظل الإدارة الحالية، إضافة إلى توجيه أصابع اتهام خافت نوع ما، لوزارة الخارجية في ظل قيادة وزيرها الحالي كولن باول، الذي اتهم بالتساهل والمهادنة. كما طال لسان السوط أيضا، طاقم مفتشي الأسلحة الدوليين في العراق.
ولما كانت قضية الهجرة للولايات المتحدة تمثل أحد أهم مفاصل العمل الأمني، درءا لتكرار وقوع هجمات شبيهة بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإن الكاتبين يناديان بتشديد قوانين الهجرة، وسد أية ثغرات ربما يتسلل منها الأعداء المتربصون بقيم أميركا وتقاليدها الديمقراطية. وفي نظر الكاتبين أنه لا سبيل لإلحاق الهزيمة بأسامة بن لادن وأمثاله من شاكلة صدام حسين وحركة "طالبان" وغيرهما، إلا بتبني إصلاحات جذرية في أداء الوكالات والأجهزة الاستخبارية، علاوة على تبني خط المواجهة الشاملة مع الإرهاب ورموزه، دولا كانت أم أفرادا أم تنظيمات. وإن بدت كل هذه الأفكار في غاية الغلو والتطرف، فما الغرابة في ذلك أصلا؟ أو ليس المعروف عن ريتشارد بيرل أنه من أبرز عرابي ومنظري آيديولوجيا التطرف التي يتبناها تيار المحافظين الجدد في البيت الأبيض، وأروقة الإدارة الأميركية الحالية بوجه عام؟ فإليه هو على وجه التحديد، يعود قسط وافر من استراتيجية الضربات الاحترازية، كما ينسب إليه ولتأثيراته على الإدارة، قدر وافر من الهرولة بالولايات المتحدة على طريق الحرب على العراق. أما زميله ديفيد فروم فهو لا شك من صاغ بموهبته