هناك حاجة إلى تأصيل فكر سياسي للمجتمعات العربية. هنا يجب أن نذكّر أنفسنا بأن الدولة هي تجمع بشري سياسي يحتاج إلى أن تتفق مكوناته وقواه وأفراده، وبالتراضي، على أسس يمكن اعتبارها الفلسفة السياسية للمجتمع. من بين أهم الأسس التي تحتاج إلى الحسم الأربعة التالية:
أولا: السلطة السياسية. فالمجتمع السياسي يحتاج إلى سلطة تديره، ولكي تديره لابد للأفراد من الإذعان لها وللقوانين التي تضعها. لذلك لابد من الاتفاق على مبررات ذلك الإذعان ومداه ومحدداته. مثلاً، هل يتم الإذعان لأسباب تاريخية تبدأ بالغلبة وتنتهي بأن تصبح عادة، أم لأسباب نفعية تتعلق بالخدمات الريعية التي تقدمها الدولة، أم لأسباب أخرى ؟
ثانيا: الديمقراطية: الحديث عن الإذعان للسلطة والقانون يقود الى أهمية تنظيم ذلك في شكل علاقات ومسؤوليات ومؤسسات. وهنا يطرح الخيار الديمقراطي نفسه كأحد أفضل الحلول التي عرفتها البشرية. ثالثا: الحرية: هناك حاجة إلى الاتفاق بشأن مركزيتها وساحات فاعليتها وتوازن تواجدها بالنسبة للفرد وللمجتمع وبالتالي حدودها، وهي في جميع الأحوال روح الديمقراطية.
رابعا: العدالة: النقاط الثلاث السابقة تحتاج الى ميزان يحكمها يتمثل في تطبيق العدالة. مكونات العدالة كثيرة يأتي على رأسها موضوع العدالة الاجتماعية بما فيها التوزيع العادل لثروات المجتمع ومغانمه ومغارمه. وهو موضوع شغل ولا يزال يشغل العالم.
الاتفاق على تلك النقاط أمر صعب. والبشرية لا زالت تختلف حول تفاصيلها. ومع ذلك فالاتفاق العريض عليها وعلى غيرها ضروري قبل وضع الدساتير وبعدها وأثناء تعديلها. ذلك أن الدساتير، والقوانين الأساسية التي تنتج عنها، يجب أن تكون نتيجة لمثل تلك المناقشات في الفلسفة السياسية التي يتبناها المجتمع لنفسه، وليس العكس. ولما كانت الغالبية الساحقة من الدساتير العربية هي دساتير ممنوحة من هذا الحاكم أو ذاك، أو من أقلية مهيمنة أو حتى من قوة محتلة كما في زمننا هذا، فإن الحاجة إلى الحفر الدائم والمتكرر في الفكر السياسي وثقافته من قبل مؤسسات المجتمع ومفكريه أمر بالغ الأهمية.
المفجع حقاً، هو أن المجتمعات العربية عبر القرون أهملت تأسيس فلسفة أو فقه لأمور السياسة والحكم خارج إطار الفهم السيّئ للإسلام والتلاعب بالألفاظ الذي مارسته مؤسسة الملك العضوض أو خارج إسار مدرسة فقه السلاطين وتبرير الاستبداد التي بناها بعض الفقهاء.
وما عاد بالإمكان الاستمرار في هذا النهج. فالقراءات العقلانية الموضوعية للنص القرآني وما تكتشفه من قيم أخلاقية وحقوقية تؤكد المقاصد الإلهية في حرية وكرامة الإنسان وسيادة العدل في كل مناحي حياته، والإرث الإنساني الفلسفي والحقوقي والتطبيقي في ممارسة السياسة الحميدة كافيان لانبعاث فكر سياسي (وليس برامج سياسية) في أرض العرب يؤسس لكل دساتير وقوانين المستقبل.
أما الآن فلابد من نقد ورفض السماح لمجموعات قانونية انتهازية تمارس بيع الدساتير والقوانين لمجتمعاتنا تماماً كما يمارسها باعة الدكاكين والحوانيت بالاعتماد على أكاذيب الإعلانات وحيل الابتسامات وزندقة حلف الأيمان غير الصادقة. يا ليت الرموز القيادية تدرك أن القضية ليسن تحدينا لبعضنا بعضاً وإنما تحدي المستقبل لنا جميعاً.