أسلحة الدمار الشامل العراقية أغرب أسلحة في التاريخ. أسلحة لا وجود لها، مع ذلك سجلت أرقاماً قياسية في حجم التقارير والكتب والاجتماعات واللجان، وعدد فرق التفتيش والتجسس التي بحثت عنها في ميادين القتال والمعسكرات والمزارع والمصانع والجامعات، وحتى داخل منابر المساجد ومخادع المسؤولين والعلماء العراقيين وتحت أشجار حدائق منازلهم. وهي أسلحة ذات حدّين: استخدمها الزعيمان الأميركي والبريطاني ذريعة للحرب ضد العراق وتدميره، وترتد اليوم لتدمّر فرصهما في البقاء. هذا هو سر الهزة السياسية التي أحدثها اعتراف الدكتور ديفيد كي رئيس لجنة التفتيش المُعيّن من قبل واشنطن بعدم وجود هذه الأسلحة. العبارة التي نطق بها ديفيد كي أمام لجنة الاستجواب في الكونغرس تلخص تجربة عمله في التفتيش عن الأسلحة العراقية منذ حرب 1991: "يظهر أننا كنا جميعاً على خطأ...ربما.. وهذا شيء مؤسف".
أسف ديفيد كي لن يعيد الحياة لأكثر من 60 ألف عراقي وألف أميركي وبريطاني وإسباني وإيطالي وياباني وأوكراني وبولندي وبلغاري وكوري وآلاف آخرين سيقتلون في هذه الحرب المشؤومة، التي خلّفت مئات الآلاف من الجرحى والمقعدين، وتواصل آثار قذائف اليورانيوم وانفجار القنابل الانشطارية المتخلفة عنها قتل ألف طفل عراقي شهرياً. أقصى ما سيحدثه اعتراف ديفيد كي هو القضاء على فرص فوز جورج بوش في انتخابات الرئاسة الأميركية القادمة. ظهرت علائم ذلك بعد تصريح ديفي كي مباشرة بأن جميع برامج الأسلحة العراقية دُمر منذ عام 1991-1992. شعبية بوش انخفضت إلى أدنى مستوى منذ الحرب واضطر إلى القبول بتشكيل هيئة مستقلة للتحقيق حول موثوقية المعلومات الاستخبارية عن الأسلحة العراقية. تضم الهيئة تسعة من القضاة ورجال القانون وممثلين في الكونغرس الأميركي عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وهذا سابع تحقيق عن أسلحة الدمار الشامل العراقية. التحقيقات الستة السابقة انتقدت تقليل أجهزة الاستخبارت الأميركية من حجم الخطر العراقي. التحقيق الحالي يركز على تضخيم الاستخبارات قدرة العراق التدميرية ودورها في دفع الرئيس جورج بوش إلى شن الحرب!
تحميل أجهزة المخابرات المسؤولية احتيال مكشوف على تورط الإدارتين الأميركية والبريطانية باختلاق أسلحة لا وجود لها لغزو العراق واحتلاله. والجميع الآن في واشنطن يقاتل دفاعاً عن نفسه، حسب تعبير صحيفة "نيويورك تايمز". في أحوال كهذه "تقع المصيبة على رأس ولد الخايبة"، كما يقول العراقيون. وقد عادت إلى الظهور الاتهامات السابقة ضد أحمد الجلبي عضو مجلس الحكم الانتقالي في العراق، الذي يُعتبر المجهز الرئيسي للمعلومات المضللة عن الأسلحة العراقية. في الشهر الماضي كان الجلبي ضيف عقيلة الرئيس الأميركي لاورا بوش أثناء زيارته الرسمية للولايات المتحدة. ولعلها آخر التفاتة من نوعها، حيث رجّح مسؤول في الخارجية الأميركية احتمال تواطؤ الجلبي مع صدام حسين ومخابراته لإيهام الولايات المتحدة بامتلاك العراق أسلحة دمار نووية وكيماوية وبيولوجية!
وآخر شيء يمكن الاعتماد عليه في واشنطن هو إخلاص وصدق أعضاء الإدارة الأميركية، التي سارع أعلى المسؤولين فيها إلى إطلاق تصريحات متنافرة ينقض بعضها بعضاً. وزير الخارجية كولن باول، الذي لا يتوقع البقاء في منصبه حتى إذا فاز جورج بوش في الانتخابات أعلن في تصريح لصحيفة "واشنطن بوست" أن عدم العثور على مخزون أسلحة الدمار الشامل يغير الحسابات السياسية. وأضاف أنه ما كان سينصح بشن الحرب لو عرف أن العراق لا يملكها. ثم استعاد في اليوم التالي جلده السابق كعسكري مطيع ليعلن أن الرئيس اتخذ القرار الصائب! مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية جورج تينيت، الذي صام عن الكلام منذ غزو العراق في مارس 2003 أعلن في حديث في جامعة جورج تاون في واشنطن أن أياً من خبراء الوكالة لم يذكر قطُ أن العراق مصدر خطر وشيك. تصريح خطير يمسّ الحجة الرئيسية التي استخدمت لشن الحرب، عالجه مدير وكالة "السي آي أيه" بالقول إن مراجعة مختلف الحقائق عن العراق تبين أن الوكالة لم تكن مصيبة تماماً ولا مخطئة تماماً. وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الذي لا يزال يدّعي إمكانية العثور على الأسلحة في حفرة مماثلة للحفرة التي عُثر فيها على صدام حسين أطلق عبارة فلسفية جديدة قال فيها إن عدم العثور على الأسلحة ليس برهاناً على عدم وجودها. وتفوّق الرئيس جورج بوش في التذاكي على مساعديه حين أعلن أن الرئيس العراقي الأسير يتحمل المسؤولية بسبب عدم كشفه عن عدم تسلحه، وتساءل "لماذا لم يسمح لنا بالدخول؟"، تلقف العبارة الذكية بات روبرت، العضو الجمهوري ورئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ معلناً عن استغرابه الشديد لممانعة صدام حسين دخول مفتشي الأسلحة وتجنّب الحرب؟!
صحيفة "الغارديان" البريطانية التي اعتبرت التحقيقات الأميركية والبريطانية شيئاً ثانوياً أكدت أن الموضوع الحقيقي هو من سيتحمل نفقات الحرب والاحتلال؟ في مواجهة هذا السؤال تُبذل جهود خارقة لتفويت الفرصة عل