إن الحكم بإدانة "ولي عهد" اليمين الفرنسي، ورئيس الوزراء السابق "آلان جوبيه" في تهم متعلقة بالفساد السياسي، قد نبه الطبقة السياسية الفرنسية مجددا، إلى مدى ضعف الجهاز الانتخابي الذي بناه جاك شيراك خلال الثلاثين عاما الأخيرة. فعلى رغم مرور 30 عاما من الصعود الذي لا يتوقف، فإن الحقيقة هي أن بقاء شيراك في منصبه كرئيس حتى الآن يرجع إلى الصدفة فقط. وهناك حاليا "صدفة" أخرى تلقي بظلال من الشك على مستقبله، وعلى مستقبل الحركة الانتخابية التي يقودها.
فقد حُكم مؤخرا على "الآن جوبيه" ،بحكم غير متوقع تماما من حيث شدته: السجن لمدة 18 شهرا مع إيقاف التنفيذ، والحرمان لمدة 10 سنوات من تولي أي منصب عام. كان ذلك أكثر مما كانت النيابة تطالب به، وأكثر كثيرا مما كانت الطبقة السياسية تتوقع. على رغم أن هذه الطبقة قد تتفق مع ما ذهب إليه المتعاطفون مع جوبيه من أنه "يدفع الثمن بالنيابة عن الجميع". وسيقوم " جوبيه " بالطبع باستئناف الحكم الصادر ضده.
ويذكر في هذا الصدد أن الاشتراكيين لديهم أمين صندوق للحزب مدان بالتهمة نفسها أي التمويل غير القانوني للحزب. ويرجع جزء من المشكلة التي يعاني منها "جوبيه" إلى أنه قد استمر في عمل ما كان يقوم به، بعد تمرير التشريع الذي كان مصمما لإنهاء هذه المشكلة (مشكلة التمويل غير القانوني). كما يرجع جزء آخر إلى أنه قد قال للقاضي بصلف أثناء المحاكمة إنه لم يكن يعرف ما الذي يدور بالضبط.
وفي الحقيقة أن "جوبيه" يدفع الثمن بالنيابة عن شيراك. فهو الرجل الذي شغل منصب مدير المالية لحكومة مدينة باريس خلال العشرين عاما، التي تولى خلالها شيراك منصب عمدة المدينة، كما أنه الرجل الذي كرس جهوده بعد ذلك من أجل أن يصبح العمدة رئيسا للجمهورية. وهناك ادعاءات حول مسؤولية شيراك عن تلك المسألة، ولكن حصانته كرئيس تحول دون التحقيق معه. ولكن إذا ما غادر شيراك منصبه كرئيس وسقطت حصانته بالتالي، وتولى جوبيه منصب الرئيس باعتباره الرجل الذي يلي شيراك في الترتيب مباشرة، فإن شيراك قد يرى حينئذ أنه من الممكن العثور على طريقة للتعامل مع تلك المشكلة.
الرجلان التاليان على سلم المرشحين للرئاسة من اليمينيين بعد جوبيه هما وزير الداخلية العدواني والطموح "نيكولاس ساركوزي"- وهو ليس من أصدقاء شيراك-ورئيس الوزراء "جان بيير رافارين"
وكلا الرجلين لا ينتميان إلى حزب الرئيس. فرافارين الذي يعطيه الآخرون أقل من قدره كثيرا، قام بمهارة بتنفيذ النوع نفسه من الإصلاحات الاشتراكية، التي حاول جوبيه القيام بها دون أن ينجح، منذ عقد خلا من الزمان عندما كان رئيسا للوزراء. وشيراك يجد نفسه اليوم معرضا للخطر. فبعد أن حقق فوزا ساحقا في الانتخابات، وحقق أغلبية برلمانية ضخمة، أخذ يتصرف في السنوات الأخيرة بقدر كبير من الاعتداد بالنفس، الذي كان يميز سابقه في الحكم فرانسوا ميتران .
وكان الناس ينزعون غالبا إلى نسيان الشيء الأكثر أهمية بصدد رئاسة شيراك، وهو أنه لا يستحق تلك الرئاسة، إذا ما شئنا الدقة. ففوزه الساحق في الانتخابات تحقق لأنه لم يكن هناك من ينافسه، وفترة رئاسته الأولى لم تكن ناجحة كثيرا، وإعادة انتخابه عام 2002 ضد الاشتراكي "ليونيل جوسبان" لم تكن مؤكدة، حيث لم يحصل في الجولة الأولى من الانتخابات على أكثر من 20 في المئة من مجموع الأصوات.
كان هناك 15 مرشحا آخر للرئاسة في الجولة الأولى من تلك الانتخابات، معظمهم من الأحزاب الصغيرة التروتسكية، التي كانت تحتج على نواحي القصور التي شابت الفترة الأولى لليونيل جوسبان في منصب رئيس الوزراء. وهؤلاء وغيرهم من الذين صوتوا للاشتراكيين في الانتخابات السابقة، قاموا بالتصويت ضد "جوسبان" في الجولة الأولى من تلك الانتخابات، بغرض "إرسال رسالة". كما قام ناخبون آخرون بالذهاب إلى الريف في عطلة نهاية الأسبوع على سبيل التواطؤ. ونظرا لقلة عدد الناخبين للأسباب المبينة أعلاه، انتهى الأمر بحصول جوسبان على الترتيب الثالث خلف اليميني "جان ماري لوبان" .
وهكذا أصبحت الجولة الثانية عبارة عن اختيار بين شيراك ولوبان. وفي هذه المرة شارك في التصويت 80 في المئة ممن يحق لهم التصويت. وقام هؤلاء بإعطاء شيراك 82 في المئة من أصواتهم مقابل 18 في المئة لـ" لوبان" . أي أن الأمر يعتبر بالكاد انتصارا شخصيا لشيراك.
(الشيء الذي يدعو للدهشة هو أن جوسبان نفسه كان زعيما بالتزكية . ففي عام 1977، وعقب الفترة الحرجة التي تلت فترة حكم فرانسوا ميتران، لم يكن هناك أحد في اليسار الذي كان قد فقد معنوياته لديه الرغبة في قيادة الاشتراكيين. ومن هنا تولى جوسبان هذه المهمة على سبيل أداء الواجب).
ورجال حزب شيراك يشعرون بالغضب الشديد الآن، لأن القضاة (غير المنتخبين) قد "حرموا فرنسا من جوبيه". وإذا ما تم قبول الاستئناف الذي تقدم به جوبيه، فإن خطة شيراك لإحلال رئيس شاب بدلا منه (أطلق عليه مسمى "الأفضل فينا")، قد تصبح ممكنة مجددا.
مع ذلك، فإن الجزء الأقل غرابة من المسألة ليس