منذ فترة طويلة، ارتحت من ذلك الإنسان الذي يريد أن يرجعني إلى الوراء، يرجعني لمرحلة الشباب، تلك المرحلة التي عاش فيها الكثير في زمن الحلم، وتغلب العاطفة على العقل. زمن قريب من أجواء فبراير، وعيد الحب، ذلك الزمان الذي ضحى من أجله العديد من شباب تلك المرحلة، ولم يكن للعقلانية أثر على تحديد المواقف. كانت العاطفة، والإعلام المسموع هما المؤثر على الناس من المحيط إلى الخليج. كانت الكلمة تقود حركات التمرد والثورة، كان الحلم قد فرش عباءته على كل الأرجاء، من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق، كان البعض يعتقد أن الحلم سيكون حقيقة.
كانت شخصية القائد الكارزمي الأوحد، هي المسيطرة، وبالتالي فإن أي مشروع يقع خارج ذلك الإطار، هو الخيانة والصف في طابور العملاء. خضعت كل القوى لذلك القادم من حضارة النيل، ونسيت القادم من حضارة الرافدين، وكم كانت الفروق كبيرة بين الشرق وبين الغرب. إلا أن العوامل الداخلية والخارجية تكالبت على حلم رفع شعلة التقدم من جديد، وكان ذلك بداية صراع الحضارات، بين مشروعين مختلفين، وكان لابد من إيجاد ظروف أخرى تحمل ظاهرياً مشروع النهضة العربية والتي امتدت إلى أكثر من قرن من الزمان.
ليس من الصدفة في عالم لا يعتمد على الصدفة -العالم الخارجي لا يمكن ان يخضع لعوامل الصدفة- أن تتحكم في مصير الطاقة على المستوى العالمي يد واحدة، وكان النفط هو الأساس في تحديد مسار القوى العالمية. فليس من المصادفة أن يدبر انقلابان في عالم النفط، في العراق وفي ليبيا، مع اختلاف التجربتين من حيث القوى السياسية ومرحلة التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. ففي العراق حيث النفط والمياه والكوادر البشرية حيث يمكن أن يخلق النموذج، جاء ذلك القادم من أرض السواد، بلا تاريخ إلا الحقد، ومحاولة الانتقام من مجتمع طبقي ضد أولئك القادمين من الطبقات الاجتماعية الدنيا. ذلك الإنسان أدرك ان اللحظة التاريخية معه. كم هي قاسية الحياة حينما يتآمر الفقر والعقد النفسية ضد مجتمع كان يمكن أن يكون المثال الحقيقي لخلق الإنسان العربي المبدع. فحينما يلتقي الماء والنفط والإنسان المبدع تكون بداية حضارة حقيقية، فهل يسمح الغرب المتوحش بوجود ذلك النموذج؟ كان لابد من وجود آليات تعطي الصورة البشعة لاستغلال السلطة ضد حقوق الإنسان، وتذكير الرأي العام العالمي بصورة محارق هتلر ضد البشرية وليس فقط ضد اليهود.
كم هو رخيص الإنسان سواء في الشرق أو الغرب، أمام آلة القمع الدولية، وهذا ما حدث بين صدام المتعطش لفرض القمع وتمكين سلطته بالحديد والنار، وبين القوى المهيمنة على مصير العالم في الغرب لحرق آلاف الأكراد في حلبجة، تحت نظر الإعلام العولمي. إلا أن الكثير سكت، إلا القلة ذات الضمير الإنساني، فأين دعاة حقوق الإنسان من ذلك؟ سؤال يبحث عن إجابة!
وفي المقابل أعلن عن ثورة في القارة الأفريقية في بلد تتحكم فيه القوات الانجليزية والأميركية، إلا أن الانقلاب نجح، وتفوق، ورفعت شعارات الناصرية والقومية العربية. وفي الوقت نفسه أجهض تجربة التحول نحو الديمقراطية الملكية، ذلك الضابط الذي رفع شعار القومية العربية، في بلد يمتلك النفط والبشر قد أعطى نموذجاً لا يمكن نسيانه. فبعد التقلب من المحيط العربي حيث قدسية القومية العربية التي طالما تغنى بها طويلاً، إلى المحيط الأفريقي الذي اخترق فيه القارة الأفريقية في موكب مهيب يليق بمن جاء ليحقق الوحدة الأفريقية بعد فشله في محيطه العربي، وأخيراً استقر به المقام حيث يجب أن يكون.
في ظل الحصار، كان الحصار على كل شيء إلا على تصدير النفط، ظل ذلك القادم من الصحراء وفياً لمن جاء به إلى السلطة. وفي اللحظة المناسبة نسي أن للعرب ذاكرة لا يمكن أن تنسى لمن يحاول أن يستغل وعي الإنسان العربي. كم هي قاتلة هذه الأحداث في ظل أعياد الحب، ونعتقد أن فالنتاين سيظل أكثر إخلاصاً ممن خان الحب والحلم للشعوب. شيء آخر يخطر على البال، سنظل نتأرجح هكذا حسب أهواء مثل هؤلاء القادة ما دمنا نؤمن بأن هناك مرجعاً واحداً يتخذ القرار وعلى الآخرين التنفيذ. نقول هذا في وقت يريد البعض أن يعيدنا فيه إلى مثل تلك المرجعيات التي يعتبر كلامها قراراً لا مفر من الالتزام به، حيث يمكن لمرجع واحد في العراق بعد سنوات عجاف من حكم الفرد أن يقرر فيما إذا كان العراق بحاجة إلى الديمقراطية والانتخاب أو أن الوقت ما زال مبكراً على ذلك!
ألم يحن الأوان ليكون الرأي للمؤسسات الرسمية منها والأهلية ومؤسسات المجتمع المدني، حيث لا يمكن أن تمر في ظل وجود مثل تلك المؤسسات قرارات خطيرة كتلك التي اتخذها هذا الزعيم أو ذاك، أو يمكن أن يتخذها هذا المرجع أو ذاك، إن المرجعيات في إيران تستغل الدين في حرمان آلاف الأشخاص من الحق في الترشيح والانتخاب، و تعود بنا مثل تلك المرجعيات إلى القرون الوسطى، حيث تمنح صكوك الغفران لهذا، وتمنع عن ذاك!