في منتصف الشهر الماضي وفي مقر منظمة الصحة العالمية بجنيف، اجتمع وزراء الصحة وممثلو حكومات ست من الدول، كان القاسم المشترك بينها جميعاً، كونها المناطق الأخيرة على كوكب الأرض التي لا زال مرض شلل الأطفال مستوطناً فيها. هذه الدول هي نيجيريا والهند وباكستان والنيجر وأفغانستان ومصر. وفي نهاية الاجتماع وفي مؤتمر صحفي عام، أعلن مسؤولو الدول تلك عن عزمهم بذل قصارى الجهود للقضاء على واحد من الأمراض التي روعت الجنس البشري عبر التاريخ. وفي إشارة لجديتهم، وربما تحت ضغط من مسؤولي منظمة الصحة العالمية، وقعوا جميعاً على إعلان جنيف للقضاء على مرض شلل الأطفال (The Geneva Declaration for the Eradication of Poliomyelitis)، وهي الخطوة التي وصفتها وسائل الإعلام بأنها خطوة تاريخية، تجاه الهدف وهو القضاء على هذا المرض وعلى الفيروس المسبب له بشكل لا رجعة فيه، وقبل حلول نهاية العام الحالي. فالجميع يعلم، المتخصص منهم وغير المتخصص، أن عام 2004 يشكل أفضل فرصة وربما آخر فرصة أيضاً، أمام الإنسان للانتصار في معركته التاريخية مع هذا المرض.
فعلى رغم أن الكثيرين منا، وخصوصاً أفراد الجيل الحالي من الشباب، لا يلقون بالكثير من الاهتمام بهذا المرض ولا يعلمون عنه الكثير، إلا أن الأجيال السابقة من آبائنا وأجدادنا كان يتملكهم الرعب والقلق لمجرد ذكره، تماماً كما نفزع نحن الآن عند ذكر الالتهاب السحائي أو الأيدز أو السارس وغيرها من الأمراض المعدية القاتلة. فحتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، كانت المدن الكبرى حول العالم، تتعرض سنوياً لوباء أو أكثر من شلل الأطفال. فمثلاً في عام 1915 فرّ الآلاف من سكان مدينة نيويورك إلى الضواحي، بعدما أصاب وباء شلل الأطفال المدينة، مسبباً شلل 27 ألف شخص، لقي تسعة آلاف منهم حتفهم بسبب مضاعفات المرض. وعلى رغم أن العدوى بفيروس شلل الأطفال لا تتسبب إلا في شلل 1 في المئة فقط من المصابين، إلا أن هذه النسبة البسيطة كانت تترجم كل عام في شكل الآلاف من الأطفال الذين يصابون بالشلل والإعاقة مدى الحياة، وإلى آلاف آخرين كانوا يموتون اختناقاً بين أذرع أمهاتهم وآبائهم، دون أن يكون لذويهم أدنى حول أو قوة لدرء المرض عنهم وإنقاذ حياتهم. فعلى رغم أن المرض لا يظهر بصورته السريرية الكاملة إلا في 1 في المئة فقط من الأشخاص الذين تعرضوا للعدوى، إلا أن المؤسف أن ما بين 5 في المئة إلى 10 في المئة من هؤلاء المرضى كانوا يلقون حتفهم في النهاية، نتيجة عجزهم عن التنفس بسبب شلل عضلات التنفس.
ومرض شلل الأطفال (Poliomyelitis) هو مرض فيروسي شديد العدوى، يصيب في الغالب الأطفال تحت سن الخامسة. وتحدث العدوى بالفيروس عن طريق الفم من خلال شرب المياه أو تناول الطعام الملوث بالفيروس. وعند وصول الفيروس إلى الأمعاء، يتوالد بكثرة وتتضاعف أعداده بشكل كبير، ويهاجم بعدها الجهاز العصبي، مما قد يؤدي إلى شلل المريض التام في غضون ساعات قليلة. وتظهر أعراض المرض الأولية على شكل حمى وصداع وقيء، مع تصلب في عضلات الرقبة وآلام شديدة في الساقين. وغالباً ما ينتهي المرض دون ترك آثار تذكر على المصاب، ولكن في الحالات سيئة الحظ، فإما أن يصاب المريض بالشلل الدائم والذي غالباً ما يكون في الساقين، أو أن يلقى مصرعه. ولا يوجد حتى الآن أي عقار قادر على قتل الفيروس، إلا أن التطعيم يمنح مناعة ضد المرض مدى الحياة.
وجدير بالذكر أن أولى حالات شلل الأطفال المعروفة كانت لكاهن مصري في أيام الفراعنة، وبالتحديد في القرن السادس عشر قبل الميلاد. بينما يعتبر الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت أشهر الشخصيات العالمية التي أصابها المرض، حين أصيب بشلل الأطفال عام 1921 وهو في التاسعة والثلاثين من عمره. ولكن على رغم التاريخ الطويل لهذا المرض، لم تعانِ البشرية من اتساع انتشاره على شكل أوبئة إلا في العصر الحديث. والغريب أن ذلك حدث مع تطور المدن وبناء نظم متقدمة للصرف الصحي! فمع تطور المدن وتحقيق العزل التام بين مياه الشرب ومياه الصرف الصحي، أصبح الأطفال يصابون بالعدوى في سن متأخرة وبطرق أخرى غير مياه الشرب الملوثة، وهو ما تسبب في بداية انتشار شلل الأطفال على شكل وبائي بين المجتمعات البشرية، وفي تزايد عدد ضحاياه الذين يصابون بالشلل أو يلقون حتفهم بسبب عدم تمتعهم بالمناعة التي كانوا يحصلون عليها في سن الطفولة.
أما بداية انتصارات الجنس البشري في حربه التاريخية مع هذا الفيروس والمرض الناتج عنه، فتبدأ عام 1954 عندما نجح العالم الأميركي جوناس سولك في إنتاج أول تطعيم ضد الفيروس، ثم نجح بعدها بثلاثة أعوام في عام 1975 عالم أميركي آخر هو آلبرت سابين، في إنتاج نوع أفضل من التطعيم، وهو النوع المستخدم حتى الآن ضمن الجهود الدولية للقضاء على الفيروس، ومنذ بدايتها عام 1988. تلك الجهود تولى قيادتها كل من منظمة الصحة العالمية، وجمعية الروتاري الدولية، والمراكز الأميركية للتحكم في الأمراض ومكافحتها، ومنظمة اليونسيف التابعة