يربط الزميل أحمد منصور في كتابه (قصة سقوط بغداد) الذي وقّعه في معرض قطر للكتاب الذي أقيم بالدوحة مؤخراً، بين سقوط بغداد على يد (هولاكو) القائد المغولي عام 1258 وسقوطها على يد (بوش) عام 2003، حيث إن المسلمين دعموا (هولاكو) ولولا ذلك الدعم لما سقطت بغداد، و"لولا دعم دول عربية وإسلامية لبوش ما سقطت بغداد عام 2003. ولولا الخونة في بلاط الخليفة، وعلى رأسهم وزيره ابن العلقمي لبقيت الخلافة، ولولا الخيانة في صفوف النظام العراقي لطالت المعركة على الأقل، ولم تسقط بغداد دون قتال بثمن بخس".
ويرجِع قصة السقوط الأخير عام 2003 إلى أن حاشية صدام وكبار قواده لم يكونوا من المتعلمين أو العسكريين الذين ترقوا تدريجياً ليصلوا إلى ما وصلوا إليه، وأن بعض القادة كانوا يصدرون الأوامر للجيش وهم أميون لا يعرفون القراءة أو الكتابة. ويتندّر (الكاتب) أن (عزة إبراهيم) كان بائع ثلج وأن طه ياسين رمضان كان أمياً ولولا أميته لما قرّبه صدام حسين إلى تلك المكانة. ويذكر (الكاتب) كيف أن الخليفة الرشيد نكّل بالبرامكة واستخدم الدهاء كي يفتك بجيش قدم لإزاحته بقيادة وزيره المقرّب. بينما تخلى المقربون من صدام ووزراؤه المخصلون وتركوه وحيداً، حتى قبضت عليه القوات الأميركية بالصورة التي أزالت المهابة والغطرسة والجبروت. إن أخطر ما يتعرض له أي نظام هو الحاشية والمقربون، وأسلوب تفكيرهم ومدى استمالتهم نحو الخيانة أو العبث بالأمانة الموكلة إليهم.
نحن ندرك أن النظام العراقي قد استمد قوته ليس من دهاء وشجاعة صدام حسين، ذلك أنك عندما تقرأ تاريخ صدام الاجتماعي والعسكري والسياسي لا تشعر أنك تواجه قائداً محنكاً ورجل سياسة، وما أفعاله خلال سني حكمه -داخلياً وخارجياً- إلا دليل دامغ على فكر سياسي غير راشد، بل إنه استمد القوة والمتانة من عسكرة المجتمع، وزرع المخابرات في كل ركن من أركان العراق. وكان لذلك ثمن باهظ دفع الشعب العراقي أكبره.
إذ من كان يصدق أن تهوي التماثيل ويتسرب القادة والمقربون إلى المدن النائية ويترك الرئيس بين الأحراش والحفر؟ هل كان صدام يكذِب على نفسه وعلى المقربين منه؟ وهل كان المقربون يدركون أنه يكذب لكنهم جبناء ولا يستطيعون مواجهته؟! لقد أكدت الأحداث ذلك!
لقد هددني سفير عراقي سابق عندما كنت في مركز مهم قبل 13 عاماً، بأن هنالك فرقة انتحارية قد كتبت على صدور أفرادها -حفراً بالسكاكين- (فداءً لصدام)، وأنهم جاهزون للانقضاض على أي من تسوّل له نفسه الاقتراب من أسوار بغداد، أو حتى عند إطلاق أية رصاصة باتجاه الحدود العراقية! ولقد ضحكت في وجه السفير عندما أضاف: إن أية رصاصة ستطلق ضد العراق سوف تزول عندها لندن وواشنطن وباريس من الوجود! وهذا ما حفّزني للضحك أكثر. واليوم أجدني أتذكر حديث السفير العراقي، ويزيد يقيني بأن أسلوب "الإرهاب الجاهل" كان يمارس ليس داخل العراق، بل خارجه، وأن أسلوب الكذب "الهتلري" قد عمل منه العرب نسخة عربية!
إن الكذب لا يمكن أن يبني علاقة حاكم مع شعبه، تلك العلاقة التي تعمد إلى دعم البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وإذا ما اقترن الكذب بالإرهاب والتخويف وبث أفراد المخابرات المستأجرين بين صفوف المجتمع، فإن التخلف والتراجع يبقى السمة الأساسية لهذا المجتمع.
تماماً كما يكون التخويف والقمع مع الجهل الذي يحيط بالحاكم! وعلى مدى التاريخ نجد حكاماً نجباء، استوزروا المثقفين والعلماء ومحبي الكتب والكتابة وفنون المعرفة، وأجزلوا العطايا للمبدعين وأصحاب الرؤى المستنيرة المؤثرين في رفع الجهل من المجتمع، أو توجيهه نحو الإنتاجية والتكاتف.
في ذات الوقت اتجه نفر من الحكام إما إلى استوزار الأجانب -الذين لم يكونوا يحملون هموم المجتمع وآماله، وحجبوا الحكام عن الشعوب- أو إلى تقريب حاشية من الجهلاء الذين يروون حكايات وأكاذيب للحاكم كي يضحك عليها، بينما في الواقع أن الحاشية هي التي كانت تضحك على الحاكم. ولكم نقل المستفيدون من قربهم من الحكام قصصاً أطاحوا بها برقاب الآمنين المخلصين للحاكم ولبلادهم، ولكم نكّل هؤلاء بالعلماء والمبدعين إما جهلاً أو حقداً لفقدانهم نعمة إعمال العقل والتنوير في المجتمع.
للحاشية دور مهم في اتجاه الأحكام، مهما كانت وعود الديمقراطية براقة وعالية! وللحاشية أثر كبير في إحقاق العدل أو زعزعة الأمن وإرساء حب الحاكم في قلوب الشعب.
واليوم وبعد سقوط النظام العراقي -الذي كان يزرع حب صدام بالقوة والإرهاب في قلوب العراقيين- ما أرهب العرب، بل وجعلهم يعتقدون بأنه "صلاح الدين" الأمة، يتبين لنا أن الظلم ومعاداة الشعوب مهما طال أمدهما فإنهما إلى زوال، وأن تخريب البلدان الآمنة دوماً يأتي من "ميلان" ميزان العدالة، وزج المظلومين في زوايا الإهمال أو السجون. ويأتي كذلك من البطانة التي تقول: نعم.. دائماً، وتجبن أن تقول: لا، مع علمها بأن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر!.
الدرس العراقي جدير بالدراسة من قبل بعض الأنظمة العربية التي تضع الحاشية س