منذ سنوات ليست بالبعيدة كنت مكلفا بتغطية أعمال قمة مجلس التعاون في إحدى دول الخليج، ولم تكن تلك أول مرة أغطي فيها هذا الحدث كما أنها لم تكن الأخيرة، ولكنها كانت مهمة فقد اكتشفت فيها حقيقة تستحق الوقوف أمامها...
في نهاية اليوم الأول للقمة كان واضحا أن أغلب الإعلاميين المشاركين في القمة إما للتغطية أو الحضور كانوا متضايقين بصورة غريبة كما أن أصواتهم بدأت تعلوا في انتقاد القمة ونتائجها وطريقة تنظيم الاجتماع بل "أبدعوا" في جلساتهم في بهو الفندق في تقييم تجربة مجلس التعاون التي لم يروا من خلالها إلا السلبيات... وكان غضب البعض منهم مبالغا فيه وكأن نتائج القمة تعنيه أو ستؤثر على حياته في حين أنه لو نجحت القمة أو فشلت فلن يتغير شيء في حياته لأنه ليس خليجيا... وكنت أتساءل عن سبب هذا الانفعال والغضب الشديد من نتائج القمة؟
لم تكن الإجابة في حاجة إلى كثير تفسير أو توضيح كما أنها لم تتطلب ذكاء من أي ممن حضروا الموقف فيبدو أن تلك الدولة الخليجية المستضيفة أرادت أن تغير واقعا ربما تعتبره غير طبيعي...وانتشرت إشاعة بين الإعلاميين أن الدولة المستضيفة للقمة لن تسلم "الأظرف" المنتفخة بالدولارات للإعلاميين كما هي عادتها في كل قمة، بل كما هي عادة جميع دول الخليج أثناء انعقاد القمم فيها، وأن كل ما يمكن أن يحصل عليه رؤساء التحرير والإعلاميون الذين حضروا إلى القمة هو مجرد هدايا عينية كساعة أو ما يشبه ذلك، وهذا ما لا يريده ولا يقبله بعض الإعلاميين الذين كانوا يصرّون على الأوراق النقدية الخضراء...
لقد غضب الإعلاميون بحجة أنهم تركوا أعمالهم وصحفهم وتلفزيوناتهم وجاءوا إلى قمة فاشلة ضعيفة من ناحية النتائج! بالطبع هذا السبب المعلن ولكن السبب الخفي أنهم تركوا أعمالهم ليحصلوا على ما تعوّدوا عليه وخصوصا أنهم يعرفون تماما وضع القمم الخليجية وما يمكن أن ينتج عنها وما يدور فيها وهذا ليس بالأمر الغريب عنهم ولا بالجديد الذي لم يكونوا يتوقعونه. لكن ما لم يكونوا يتخيلون حدوثه في يوم من الأيام أن تحجب عنهم العطايا التي تعودوا الحصول عليها. والمفارقة الغريبة أن تلك القمة كانت واحدة من أنجح قمم مجلس التعاون ونتائجها كانت عملية ومثيرة للاهتمام، وعلى رغم ذلك فقد كان الحديث عنها سلبيا ونقديا والسبب عرف لذا فإن العجب قد بطل.
تذكرت هذه الواقعة وأنا أتابع موضوع قوائم الأسماء التي نشرتها صحيفة "المدى" العراقية لتلك الشخصيات العربية وغير العربية التي اتهمت بالحصول على رشاوى من صدام حسين خلال فترة الحصار.
إنني لن أوجه النقد لأحد ممن "قبض" وإنما كل النقد يوجه إلى دول وأنظمة دفعت لأولئك وبعضها ما تزال تدفع الى اليوم وباليورو وليس بالدولار وخلقت كثيرا من أشباه المثقفين وأشباه الصحفيين وعوّدتهم على هذا الأسلوب بل أصبحت بعض دول الخليج –على سبيل المثال- تختار الصحفيين الذين تريد حضورهم وأغلبهم من النوعية التي "تقبض" وإن لم تقبض تكتب ما يكتب وما لا يكتب، فالدول تدفع لسبب واحد هو أن تضمن صمتهم وعدم استخدام أقلامهم ضدها.
قد يقول البعض إن لدول الخليج ظروفها الخاصة فيما تقوم به وإن الوضع الحالي قائم منذ سنوات طويلة. فمنذ نشوء واستقلال دول الخليج وظهور النفط فيها وهي تدفع. فقد كانت هدفا مباشرا لابتزاز كثير من الأقلام العربية والغربية، والدول لم تجد طريقة أفضل من الدولارات لتسكتهم بها وقد سكتوا إلى حين وكلما احتاجوا إلى المال ملأوا أقلامهم بالحبر الأسود للكتابة ضد دول ناشئة خبرتها في التعامل مع الصحافة والسياسة والابتزاز كانت ما تزال محدودة، ولكنهم استفادوا من هذا الوضع وأصبحوا من أصحاب الملايين.
ويبدو لي أن مستشاري تلك الدول في ذلك الزمان غير البعيد لم يكن أمامهم للحكام والمسؤولين غير نصيحة "الفلوس" التي ربما هي الحل السحري في كل زمان ومكان لإغلاق أفواه أو جعل أخرى تتكلم في كل شيء... وللأسف أن كثيرا من المسؤولين حتى هذا اليوم ما يزالون يؤمنون بهذه الطريقة التي أثبتت فشلها. فهم يكرمون الإعلاميين ويدفعون لهم بكل الأشكال وبسخاء شديد وهم يعتقدون أنهم يحمون أنفسهم أو مؤسساتهم وشركاتهم في حين أنهم يسيئون لأنفسهم ويفسدون الصحفيين ويقوون من وضع غير الأسوياء منهم ممن يقبلون بكل ما يحصلون عليه بل ويطلبون المزيد لأنهم يجدون من يرضخ لطلباتهم غير المشروعة أخلاقيا ومهنيا.
ونعود لموضوع العراق والرشاوى الأخيرة ونؤكد أن النفس البشرية ضعيفة وهي ليست أضعف أمام شيء قدر ضعفها أمام المال، فكيف سيكون الحال أمام براميل وكوبونات النفط وملايين الدولارات. ومن الذي يمكن أن يرفض وهو تعوّد على الأخذ بغير حق. لذا نقول إن الشجاعة اليوم ليست في أن نكشف أسماء الذين أخذوا من صدام وكم أخذوا فالظروف كانت ظروفا والأوضاع كانت أوضاعا وهذا ليس دفاعا عن أحد ولكن محاولة للعودة إلى الواقعية والوقوف على أرض الواقع بدلا من الاستمرار في السير على أرض الأوهام والكذب والخديعة.
ما يجب الحديث عنه اليوم هو ه