بثت إحدى القنوات العربية شريطاً مسجلاً للإرهابيين الذين نفذوا عملية تفجير مجمع "المحيا" السكني في العاصمة السعودية، أو حسب تسميتهم للعملية بغزوة بدر الرياض التي أودت بحياة نحو عشرين وإصابة مئة كان معظمهم من العرب والمسلمين. وعلى غرار أفلام الأكشن الأميركية ظهرت مجموعة شباب ملثمين أثناء تدريبهم على الاقتحام في مكان مجهول. وينقلنا التسجيل إلى تفاصيل التحضير لـ"الغزوة"، لكن أغرب ما عرضه الشريط ما أطلق عليه زفة الشهداء وهو آخر الابتكارات الانحرافيه لجماعات الموت والتخريب. فباسم الإسلام وباسم الجهاد يحتفل بموت هؤلاء، فمن يملك مفاتيح الجنة ليزف هؤلاء الشباب المغرر بهم إلى الحور العين وجنة الخلد، ومن يملك تصنيف الناس إلى أهل الجنة وأهل النار إلا الله رب العالمين؟ فأي زفة وأي عرس دامٍ هذا؟
لم يكن مستغربا الاستدلالات الشرعية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية لتبرير أعمالهم، فهم يأخذون من العلم والقرآن ما يوافق مآربهم، ويتركون ما يخالف أهواءهم. وحقيقة ما هم إلا حلقة في سلسلة طويلة تمتد عبر التاريخ الإسلامي. ليسوا استثناءً، لكن لم ولن يكونوا قاعدة. فباسم الإسلام ارتكبت المجازر وباسم الإسلام رفعت المصاحف وكانت الفتنة الكبرى في صدر الخلافة الإسلامية وبين صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. لذا لابد من قراءة التاريخ الإسلامي وإعادة قراءته من جديد. للأسف نحن شعوب لا تقرأ التاريخ، وإن قرأناه فمبتورا. فالفتنه الكبرى في عهد آخر الخلفاء الراشدين درس عظيم في الصراع الديني السياسي والتساؤلات المحرمة لابد من طرحها وتحليلها للشباب المسلم، والنظرة الأحادية للتاريخ لن تنتج إلا فكراً تكفيريا منحرفا يعيد وسيعيد إنتاج نفسه بصور مختلفة كما في العصور الإسلامية السابقة وعصرنا الحالي. المأزق عظيم فقد يمضي بن لادن أو أشباهه لكن التربة التي أنتجت بن لادن ستعيد إنتاج نسخ أكثر تشددا، ومن محاربة الصليبيين وطردهم من الجزيرة العربية انتقل الأمر إلى حرق الأوطان وتكفير المجتمعات، والقادم أسوأ. والآن تستحلّ الأوطان باسم إقامة الدولة الاسلامية التي لم توجد أصلا بصورتها المثالية عبر التاريخ الإسلامي إلا في مخيلة هؤلاء، وهم لا يملكون تعريفا لها أصلاً إلا بصورتها الطالبانية (نسبة إلى حركة طالبان) المرفوضة أصلا، والفتاوى الخارجة من الكهوف. فكر ضال حلل دماء المسلمين باسم الجهاد، زاده التشجيع والتطبيل انحرافا على انحراف. ولا يسعني هنا إلا أن أستجدي إجابة لتساؤل حائر: كيف ستقام الدولة الاسلامية؟ بتفجير مجمع سكني، حتى لو فرضنا جدلا بأن ساكنيه من الأجانب الغربيين؟.
لن ندين نشر مثل هذه التسجيلات لأنها تدخل من وجهة نظرنا تحت خانة السبق الصحفي وحرية الرأي. والواقع فإن نشرها عبر المواقع الأصولية ولن نقول الإسلامية بالأنترنت قد سبق نشرها إعلاميا الجمعة الماضية، والملاحظ أن فيلم غزوة بدر الرياض لقي احتفاءً غير مستغرب في العديد من المنتديات المحسوبة على الإسلاميين، ولاشك أن العديد من الشباب تأثر بما عرِض، ولعل سيل التبريرات التي انتشرت في أعقاب التفجيرات دليل على التواطؤ العاطفي مع هؤلاء . فالمؤيد أو المبرر لمثل هذه الأفعال يشارك هذه الفئة الضالة المنحرفة من المتسمين بالمجاهدين وكل من يبرر هذه العمليات يساهم بطريقة أو بأخرى في تكاثر العمليات وتناثر الأجساد وعلى صيغة أنتم السابقون إلى الجنة ونحن اللاحقون، سيمضي المزيد من الشباب لمحرقة زفة الشهداء.
التصالح مع هؤلاء ليس مستحيلا، وهو بيد علماء الدين، فإذا كان المجتمع كافرا والحكومات علمانية فإن علماء الدين فقط هم من بيدهم إقناع هؤلاء والماشين على دربهم بخطئهم. تعلمنا أن أعظم الجهاد هو جهاد النفس وأن حج بيت الله لا يعادله جهاد، فإذا كان للجهاد وقع سحري في نفوس الشباب فلم لا يركز عليه علماء الدين وليبينوا أوجه الجهاد المختلفة. صحيح أن التصالح بين المجتمع والشباب تحدّ عظيم، لكن المسؤولية مشتركة. الأمن مطلوب من جهة الدولة، لكن لا ننسى أن هؤلاء أبناءنا بفكرهم المنحرف وبسلوكياتهم الشاذة فمجتمع يأخذ بيد المدمِن والمنحرف سلوكيا بوسعه أن يأخذ بيد شباب منحرف فكريا، فالوطن أم لا تهجر أبنائها، والعنف لن يولد إلا عنفا. لكن من المسؤول عن شباب يزف إلى الموت؟
تنفجر السوداوية والأحقاد بالأجساد مع صيحات "الله أكبر" وبحلم جنة الخلود، فيا ويل أوطان يزف شبابها دمارا وهلاكا لأوطانهم، ويا ويل مجتمعات تزرع الموت وتحصد الدمار. مأساة أن لا نعي حجم المأساة.