قال صاحبي: تحدثت عن الأحكام والأخلاق في الإسلام، وقلت إن آيات الأحكام قليلة، وأقل منها الأحكام التي تسمى "الحدود" المحصورة في أربعة: حد الزنى، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة. وما أريد أن أسألك عنه هو: لماذا وردت هذه "الحدود" بعقوبات من النوع الجنائي، ولماذا لم تدرج هي الأخرى في مجال الأخلاق؟ وسؤال آخر: ما هي آراء الفقهاء في كيفية تطبيق هذه الحدود، وهل هناك استثناءات؟
قلت: سؤالك من شقين: الأول جاء بصيغة "لماذا": "لماذا فعل الله كذا، ولم يفعل كذا؟، وهذا مجاله علم أصول الدين أي علم الكلام. أما الشق الثاني فهو يطرح تطبيق هذه الحدود. والمسائل التطبيقية هي من مجال الفقه.
لنبدأ بالشق الأول:
السؤال عن الحكمة التي من أجلها تعامل القرآن الكريم مع القضايا الأربع المذكورة (وبعضهم يجعلها خمسا بإضافة شرب الخمر)، معتبرا إياها جنايات حدد عقوباتها (ما بين الجلد، والقطع، والقتل، كما سنبين عند الجواب عن الشق الثاني من سؤالك)، هذا السؤال يقع تحت سؤال أعم سبق أن طرحه المتكلمون بالصيغة التالية: لماذا خلق الله العالم ولماذا بعث رسلا إلى الناس لدعوتهم إلى عبادته وامتثال أوامره ونواهيه، هذا في حين أنه المنزه عن الحاجة إلى العبادة أو غيرها كما ورد في القرآن: "الله غني عن العالمين"؟ (آل عمران: 97).
كان هناك من قال إن هذا سؤال غير مشروع لأن الله يفعل ما يريد وبالتالي فأفعاله، ومنها أوامره ونواهيه، يجب أن تؤخذ كما هي، وعلى الإنسان أن يمتثل لها وليس له أن يسأل عن القصد منها.
وكان هناك رأي آخر يقول إن جميع أفعال الله هي لحكمة، وهو منزه عن فعل شيء دون أن يكون وراءه حكمة أي غاية وقصد، لأن الفعل من دون غاية وقصد عبث، والله منزه عن العبث؟
وبما أن الأمر يتعلق برسل وأنبياء تعاقبوا منذ آدم، وليس برسول واحد، وبما أن الإسلام يدعو إلى الإيمان بجميع الرسل والأنبياء، فقد عمد علماء أصول الدين في الإسلام إلى التماس الجواب لا من الدين الإسلامي وحده بل من جميع الأديان السماوية. وهكذا قاموا باستقراء الغايات والمقاصد التي تبرر بعثة الرسل في الأديان السماوية، فوجدوها ترجع إلى مبدأ واحد، هو مصلحة الإنسان، أو المصلحة العامة للبشر جميعا، وقد قسموها إلى ثلاثة أصناف: مصالح ضرورية لوجود الإنسان المادي والمعنوي وسموها الضروريات. ومصالح يحتاج إليها الإنسان لاستقامة حياته ماديا ومعنويا وسموها الحاجيات. ومصالح ترتقي بحياة الإنسان نحو مزيد من السعة والفضل والتحلي بكل ما هو مفيد وحسن، وسموها التحسينات.
أما الضروريات وقد جعلوها أصلا للحاجيات والتحسينات والتكميلات، فقد حصروها، بعد الاستقراء، في خمس: حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال، حفظ الدين. ومن ثم اعتبروا أن حياة البشر وانتظام أمرهم وحماية مصالحهم الخ، تتوقف على حفظ هذه الضرورات الخمس. ومن هنا اعتبرت حقوقا عامة، حقوقا لإنسانية الإنسان ككل فسميت "حقوق الله" بمعنى أنها فوق "حقوق الناس" كأفراد، ليس لهم أن يتنازلوا عنها ولا أن يأخذوا التعويض عنها أو غير ذلك. وواضح أن حد السرقة يدخل في حفظ المال، وحد الزنى يدخل في حفظ النسل، وحد الحرابة يدخل في حفظ النفس، وحد الخمر يدخل في حفظ العقل كما أن حد القذف يدخل في حفظ الدين، باعتبار أن اتهام شخص ما بالزنى مثلا يطعن في دينه، فمن أجل أن يُحفَظ له دينه من التهم الباطلة الكاذبة كان حد القذف.
أما عن كيفية تطبيق هذه الحدود –وهي الشق الثاني من سؤالك- فسنرجئ الكلام فيها إلى المقال المقبل. ذلك أننا نريد أن نغتنم هذه الفرصة لنعطي للضرورات الخمس المذكورة معنى ودلالة من واقعنا المعاصر، من معطيات الحضارة المعاصرة.
1- ففي مجال "حفظ النفس" يمكن بناء تصور جديد لمفهوم "الحفظ" يستجيب لمتطلبات عصرنا. إن الأصل في مفهوم "حفظ النفس" هو كف الأذى عنها مهما كان نوعه. ومعلوم أن الإذاية التي تلحق النفس البشرية تمتد على مسافة واسعة: من الخبر المشؤوم والمنظر القبيح والكلمة غير الطيبة والتمييز بجميع أشكاله، العرقي والديني والاجتماعي والاقتصادي والحقوقي الخ… إلى التعذيب والقتل الفردي والإفناء الجماعي الذي يتم بـ"أسلحة الدمار الشامل".
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أرى أن مبدأ "حفظ النفس" يجب أن يشمل ليس فقط نفس الفرد البشري من القتل الذي هو من هذا النوع الفردي والجماعي بل يجب أن يشمل أيضا توقيف العمل بعقوبة الإعدام، وهي عقوبة صار من الممكن الآن أداء القصد منها بالسجن المؤبد، دون أن يكون في ذلك تعطيل للنص. ذلك أن السجن المؤبد لم يكن ممكنا في الأزمنة القديمة ولا في جميع المجتمعات، لأنه يتطلب وجود دولة تتصف بالاستمرارية في مؤسساتها وقوانينها، استمرارية تجعل من عقوبة السجن المؤبد حكما بالإعدام مؤجل التنفيذ إلى حين حلول الأجل المحتوم. كما يجب أن يشمل مفهوم حفظ النفس ليس فقط نفس الفرد البشري الواحد، بل أيضا نفوس الجماعات والشعوب والأمم. ومن هنا ضرورة منع الأسلحة التي تؤدي إلى القتل الجماعي مهم