أخيرا دشنت الولايات المتحدة هجمة إعلامية واسعة النطاق تستهدف تحديدا العالم العربي. فقد أنشأت للتو قناة جديدة سمتها "الحرة" (Al - Hurra)، وهي قناة تتجه في خطها العام إلى بث الأخبار، والتسلية، وتبث عبر الأقمار الإصطناعية، من مقرها في سبرينغفيلد، قرب واشنطن. وستشرف على قناة "الحرة" هذه، الهيئة الأميركية المعنية بتوجيه البث المسموع والمرئي الموجه إلى الخارج. ومعنى هذا الكلام ينبغي أن يكون واضحا، وهو باختصار شديد، أن القناة إذا ليست مبادرة خاصة، أي من قبيل إعلام القطاع الخاص، حتى لا نقول الحر، وإنما هي وسيلة إعلام موجهة، بشكل مباشر، وما يحرك خيوط توجهاتها، ومن وراء الستار، هو أصابع أعضاء الحكومة الأميركية. وقد انطلقت قناة "الحرة" برأسمال سنوي قدره 62 مليون دولار.
ستحرص "الحرة"، طبعا، على أن تظهر في عيون مشاهديها، على أنها قناة مستقلة، من خلال إسناد معظم العمل التحريري فيها إلى صحفيين عرب، ولكن أحدا، مع ذلك، لا يستطيع مقاومة الشكوك بأن الأخبار التي ستبثها لن يسمح فيها بما من شأنه إزعاج الحكومة الأميركية، أو إحراجها، كما لن يسمح، قطعا، بأية تحليلات تمضي بعيدا، في انتقاد السياسات الخارجية الأميركية، خاصة أن واشنطن كانت قد أطلقت "راديو سوا" الذي يحاول جاهدا اجتذاب جمهور واسع من الشباب العربي، وذلك من خلال التركيز على البث المحموم للموسيقى الشرقية والغربية معا. ومثل هذه المشروعات الإعلامية تسير على نهج مثال سابق، ذي محددات خاصة، جربته أميركا، هو "صوت أميركا و"إذاعة أوروبا الحرة" اللتان أطلقتهما الولايات المتحدة، طيلة الحرب الباردة، وذلك بهدف احتواء ومواجهة الدعاية السوفييتية وقتها.
الملفت في هذه المشروعات الإعلامية الأميركية الحالية التي تستلهم النموذج من ماض كان الجميع يظنون أنه قد مضى وانقضى، أنها تأتي دليلا قاطعا على أن المسؤولين الأميركيين توصلوا الآن في قرارة أنفسهم إلى قناعة راسخة بأن درجة عدم شعبية الولايات المتحدة في العالم العربي باتت خطيرة، وأن عليهم أن يعملوا اللازم لتدارك ما يمكن تداركه، لإنقاذ سمعة بلادهم لدى العرب، بعدما وصلت إلى هذه الدرجة من التردي والسلبية.
بقي أن نذكر أيضا أن ثمة مجهودا موازيا يرافق هذه الحملة الإعلامية، ويتمثل في البث المنطلق من إذاعات أخرى موجهة للعالم الإسلامي، وإعلانات مدفوعة في الصحف العربية، كما تم إنشاء موقع على الأنترنت (بالإنجليزية والأندينوسية والفرنسية)، عنوانه :(opendialogue.org)، وهو أيضا موجه إلى العالم الإسلامي. ويضاف إلى كل هذا برنامج جامعي ممول بـ25 مليون دولار الغرض منه دعم إقبال الشبان العرب على المجيء للدراسة في الولايات المتحدة. وهو برنامج تلقي إدارة بوش بثقلها وراءه. وكل ما يمكننا قوله الآن هو إن ما يراد إنجازه من وراء هذا المسعى، من الصعب على المرء تصور تحقّقه. فالتعقيدات البالغة التي يفرضها القانون المسمى بـ"الوطني"، (patriot act) الصادر في 2001 من شأنها أن تجعل دخول المسلمين أصلا إلى أميركا أمرا بالغ الصعوبة. فبدلا من مقاومة وإخماد النزعات الراديكالية والعداء لأميركا في أوساط ملايين الشبان المسلمين في العالم، تضيف السياسات والنظم الجديدة التي فرضت على نظام "الفيزا" مزيدا من الاستياء، وتذكي جذوة الغضب والكراهية. والأغرب من كل هذا- يقول بعض الجامعيين بتذمر- أنه في حين تحتاج الولايات المتحدة، أكثر من أي وقت مضى، إلى(سفراء) أي أشخاص أجانب من المتعاطفين معها، تأتي تعقيدات الحكومة الأميركية المذكورة لتقطع الطريق على أي مسعى لتكوين جيل جديد من هؤلاء، من خريجي الجامعات الأميركية.
ولنعد الآن إلى صلب الموضوع ثانية لنطرح سؤال الأسئلة بحق الذي يتعين على مشرفي قناة "الحرة" الإجابة عليه، وهو: ترى، أي قدر من المصداقية سيكون في مقدور الأخبار التي تبثها قناة "الحرة" و"راديو سوا" أن تتمتع به؟ وهل يصدق مسؤولو واشنطن حقا، في قرارة أنفسهم، أنه بمقدورهم تشكيل الرأي العام بهكذا وسائل إعلامية؟ هل يمكن أن يكونوا بهذه الدرجة من السذاجة وهم يتصورون أنهم سيغيرون، في لمح البصر، كل الشيء في الأفكار والتصورات لدى الجمهور المستهدف، وبهذه السرعة والبساطة معا؟
الأمر الخطير الذي يغفله الأميركيون هنا هو أن أية عملية اتصال أو علاقات عامة لا يمكن أن تثمر إلا إذا بنيت على إدراك ووعي كامل بحقيقة الواقع الذي تتعامل معه. فلا يمكننا مثلا أن نجعل أحدا يتلقى بصدر رحب ما نقترحه عليه من وعي ومدركات، ورسالة إعلامية إجمالا، ولا أن نجعله ينمّي ذاتيا مشاعر نريدها نحن إزاء ظاهرة ما، إذا كنا ننطلق في التعامل معه من لا شيء، أو إذا كنا نريد من جمهور متلقينا الاقتناع بطرح يختلف مع ما يعتبر وحده أمرا مقبولا لدى ذلك الجمهور، وهو بالتالي ليس مستعدا لسماع أي شيء عداه. وعلى أية حال، لا نحسب أننا في حاجة هنا إلى التأكيد على أن بث فواصل إشهارية، هنا أو هناك، ولا موسيقى محمومة صاخبة، تبث دون انقطاع، يمكن أن يساعد أي منه