حظيت صفقة تحرير الأسرى بين حزب الله وإسرائيل باهتمام كبير تستحقه، وركزت تعليقات كثيرة على أنها –أي الصفقة- قد أثبتت من الناحية العملية فساد المنطق الإسرائيلي القاضي باعتبار حزب الله تنظيماً إرهابياً لا ينبغي اجتثاثه فحسب، وإنما عقاب كل من يحميه أو يقدم له العون، فكيف يكون الأمر كذلك وإسرائيل نفسها تقدم له تنازلات بما يعني شاءت أم أبت أن ما تسميه بإرهاب حزب الله قد أتى بثمرة سياسية. لقد كانت إسرائيل مثلاً تصر دوماً على عدم التفاوض مع خاطفي الطائرات وعلى ضرورة استسلامهم أو القضاء عليهم، ولكنها بدخولها ساحة التفاوض مع حزب الله وقبول مبدأ التنازلات المتبادلة بينهما تكون قد اعترفت ضمناً أن الأمر جد مختلف في هذا السياق. ركزت تعليقات أخرى على تعاظم مكانة حزب الله في السياسة اللبنانية على النحو الذي أشار له رمزياً الترتيب البروتوكولي اللافت للسيد حسن نصر الله في استقبال الأسرى، وأكدته النظرة السياسية الرحبة للحزب التي لم تتعامل مع قضية الأسرى كقضية حزبية أو كقضية تتعلق باتجاه سياسي دون غيره أو حتى كقضية وطنية وإنما كقضية عربية عامة. ركز نوع ثالث من التحليلات على الجسارة التي اتسم بها سلوك الدولة اللبنانية إذ أيدت الحزب في كافة مراحل نضاله وصولاً إلى نضاله السياسي من أجل قضية الأسرى، ووقف رئيسها يتصدر مستقبلي المحررين منهم في تلاحم لافت بين الدولة والمقاومة لم يعد ثَّمة شك في أنه أفضى إلى إنجازات عجزت عنها دول أخرى أوفر إمكانات بكثير من الدولة اللبنانية. انشغل أخيراً فريق من المحللين النظريين بالحديث عن طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة التي لم تعد الدولة وحدها هي اللاعب الرئيسي فيها، وإنما يشاركها الأدوار لاعبون آخرون لا يمثلون دولاً ويكونون قادرين في ظروف معينة على التأثير في مجريات الأمور وربما على تحقيق إنجازات تعجز الدول عن تحقيقها.
لكنني أود أن أركز في هذا التعليق على معنى يتعلق بعملية التسوية الشاملة للصراع العربي-الإسرائيلي، وهو معنى ظهر على نحو جزئي حيناً وغير مباشر حيناً آخر في التعليقات التي تناولت الصفقة، ولكي نقف على هذا المعنى بشكل أوضح فلابد من وضع الصفقة الأخيرة في السياق العام لنموذج عملية التسوية السياسية للصراع بين العرب وإسرائيل وتطور هذا النموذج عبر الزمن.
ويمكن الحديث عن نقطة بداية زمنية لهذا النموذج في أعقاب حرب 1967 وهزيمة العرب فيها. لقد كان العرب قبلها يتمسكون بحلٍ للقضية الفلسطينية يعيد ما سلب من الأرض لأصحابها ويعيد من شُردوا منهم إليها. ولكن الهزيمة أوجدت واقعاً جديداً لم تستكمل فيه إسرائيل احتلال ما بقي من أرض فلسطين فحسب وإنما تمكنت أيضاً من احتلال أراضٍ تابعة لدول عربية أخرى في مقدمتها شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية، وفي هذا السياق حدث تحول استراتيجي –وإن على نحو تدريجي- في المواقف العربية أصبحت بموجبه تقبل تسوية تقوم على بقاء إسرائيل في حدود ما قبل يونيو1967 بشرط انسحابها من الأراضي التي احتلتها في عدوانها على العرب في تلك السنة مع حديث غامض عن حل لمشكلة اللاجئين. وكان قبول مصر في نوفمبر 1967 القرار 242 مؤشراً رمزياً بالغ الدلالة على هذا التحول الاستراتيجي في المواقف العربية، إذ كان القرار يتضمن كما هو معروف حق جميع دول المنطقة في العيش في حدود آمنة ومعترف بها في مقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلت في الحرب مع الحديث عن حل عادل لمشكلة اللاجئين. وفي حينه أثار القبول المصري للقرار المذكور اعتراضات عربية رسمية وشعبية هنا وهناك لكنه كان مقدمة لقبول باقي الأطراف العربية المعنية به وإن في توقيتات متباعدة زمنياً. لكن بيت القصيد في هذا كله أن عملية التسوية لم تتحرك قيد أنملة بعد هذا القبول على الرغم من الجهود الدولية الفائقة التي شاركت فيها الأمم المتحدة بنصيب وافر، ولم يحدث هذا التحرك إلا عندما بلغت حرب الاستنزاف المصرية أوجها في عام 1969 والنصف الأول من عام 1970، وهنا فقط تحركت الدبلوماسية الأميركية لتتقدم بمبادرة روجرز التي كانت تتضمن التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار والدخول في مفاوضات لتنفيذ القرار 242.
وفي حينه أجهضت الملابسات التي أحاطت بتنفيذ قرار وقف إطلاق النار في أغسطس 1970 ثم وفاة الرئيس عبد الناصر في سبتمبر من العام نفسه أي حديث عن ثمار لهذه الخطوة على طريق التسوية، لكن النموذج ذاته تكرر في بدايات ولاية الرئيس السادات الذي أعلن في فبراير 1971 عن مبادرة كان من شأنها لو قبلتها إسرائيل أن تنهي حالة الحرب عملياً بين الطرفين دون ضمان تحرير كامل سيناء، فقد قضت المبادرة بانسحاب القوات الإسرائيلية من الضفة الشرقية لقناة السويس عشرة كيلومترات تقوم مصر بعدها بتطهير قناة السويس وإعادة فتحها للملاحة وإعادة المهجَّرين من مدن القناة إليها، ومع ذلك فإن الغرور الإسرائيلي المدعوم بالمساندة الأميركية الشاملة رأى في تنفيذ هذه المبادرة تنازلاً غير مبرر طالما أن الأمور كانت هادئة، و