يعد السناتور الديمقراطي جون كيري من ولاية ماساشوست المرشح الأكثر ترجيحا للمنصب الرئاسي عن الحزب الديمقراطي حتى الآن. وفي الواقع فإن صعوده السريع، واحتلاله أعلى مراتب أصوات الرأي العام الأميركي، يمثلان لحظة من أبرز لحظات حيوية العملية الانتخابية الأميركية في البلاد، ومفاجآتها المباغتة المذهلة. فمنذ نحو شهر واحد، كان المحللون السياسيون قد أسقطوا تقريبا ورقة كيري. ولما كان قد دخل إلى حلبة المنافسة الانتخابية منذ عام من الآن، فقد كان الكثيرون قد اعتبروه حصان الديمقراطيين الرابح بلا منازع، وحبيب قلوب الجماهير، ومرشحهم الأول للمنصب الرئاسي لهذا العام. غير أن حملته كانت بركة راكدة تحت أحسن الفروض والأحوال، إن لم تكن رمادا لم تلهبه النيران قط. وبدلا من كيرى أثبت منافسه هوارد دين- حاكم ولاية فيرمونت- أنه هو الجواد الديمقراطي الرابح أو المتقدم. فقد كان هذا الأخير، هو من ألهم الحزب الديمقراطي وقود حملته الانتخابية السياسية منذ العام الماضي 2003.
وبحلول مطلع العام الحالي 2004، كان لهوارد دين قصب السبق في أي استطلاع أجري للرأي العام الأميركي. بل تفوق على منافسه كيري في ولاية نيو هامبشير بنسبة تجاوزت الثلاثين في المئة. وتكرر الشيء نفسه في ولاية إيوا حيث تفوق على منافسه ديك جيبهاردت عضو الكونجرس عن الحزب الديمقراطي. أما كيري، فقد تخلف عن هذين الاثنين كثيرا، وكان نصيبه المرتبة الثالثة في الاستطلاعات. ولكن يبدو أن كيري قد اتخذ قرارا استراتيجيا حاسما في حملته الراهنة، مع كل التعقيدات والمصاعب المالية التي تواجهها. ويتمثل هذا القرار في تسريح مدير حملته الانتخابية، ورهن منزله كي يتمكن من استدانة مالية قدرها ستة ملايين دولار، تخصص لتمويل حملته في المرحلة المقبلة من العملية الانتخابية. وهذا هو بالضبط ما خطط لتنفيذه فعليا في ولاية إيوا، التي كانت بالنسبة له معركة موت أو حياة. وشعاره فيما يبدو لهذه المعركة هو: إما نصر ساحق أو خسارة فادحة.
من جانبها سخرت الصحافة السلبية مما سمّته "استماتة كيري". وقالت هذه الصحافة إن كيري يسعى بمعركته هذه إلى حتفه السياسي بظلفه وماله. وبدت " استماتة كيري" في نظرها، كما لو كانت بمثابة المسمار الأخير الذي سيدق في نعشه السياسي والانتخابي. غير أن ما غاب عن نظر وبصيرة هؤلاء الخبراء السياسيين والإعلاميين، هو أن استراتيجية " فز أو مت" التي انتهجها كيري، هي التي أعادت الروح لحملته الانتخابية، ونفخت فيها النار مجددا. فقد كان نصيب كيري من التأييد الشعبي لحملته الرئاسية لا يتجاوز الرقم الواحد في مطلع هذا العام. إلا أنه سرعان ما بدأ يقفز بالزانة وسريعا جدا، متفوقا بذلك على جميع منافسيه من الديمقراطيين. ولم يتم له ذلك، إلا بفضل جودة العمل التنظيمي، علاوة على نهجه الاستراتيجي الذي تبناه مؤخرا في ولاية إيوا. وقد كان الفوز الساحق الذي تحقق له في هذه الولاية درسا ونموذجا لما يمكن أن تسفر عنه استراتيجية انتخابية مثل التي تبناها كيري، من فوز واكتساح للمعارك الانتخابية المقبلة في ولايات أخرى. فقد تصدر كيري بسبب ذلك الفوز عناوين الصحف ومانشيتاتها لأسبوع كامل، فضلا عن الأموال والتبرعات التي تدفقت دعما وتأييدا لحملته ومعاركه القادمة. وبفعل ذلك الفوز، تمكّن كيري من إلحاق هزيمة انتخابية كبيرة بمنافسه -دين- في ولاية نيو هامبشير، إلى جانب تصدره للمرتبة العليا من التأييد في أصوات الرأي العام. وبنهاية الأسبوع الماضي، كان كيري قد فاز بمعظم الولايات التي تحتدم فيها حدة التنافس الانتخابي. لا غرو إذا، أن يحصل كيري على تأييد كبار القادة الديمقراطيين، ويبرز مؤخرا بوصفه المرشح الديمقراطي الأكثر ترجيحا للمنصب الرئاسي.
وإن كانت ثمة عبرة ودرس سياسي يمكن تعلمهما من كل هذه التجربة، فإنهما يتمثلان في أن السياسة بوجه عام، إنما تتكون من عاملين رئيسيين: العامل الأول هو فهم مزاج واتجاهات الرأي العام والجماهير. أما العامل الثاني، فيتلخص في جودة وفاعلية تنظيم العملية السياسية والانتخابية. وكلا العاملين، يمثل ضرورة حاسمة ولا غنى عنها لتحقيق أي نجاح سياسي. وهذا هو عين ما فعله كيري. فقد رفع أسهمه عاليا من معركة الموت والحياة التي خاضها في إيوا، وها هو يحاول الاستفادة من التجربة نفسها في صعود سلم الترشيح الرئاسي.