(لا تتعاملوا مع الارهاببين).. تلك عبارة مبتذلة كعبارة "نظّف أسنانك بالخيط بعد الطعام"، وهي من جملة الملاحظات التي كثيراً ما ينطقها الناس وقلّما تلقى من سامعيها الاتباع والانصياع. ففي حالات كثيرة نجد كل ديمقراطيات العالم تتعامل مع الارهابيين: تعاملت بريطانيا مع منظمة الجيش الجمهوري الإيرلندي، وتعاملت كولومبيا مع جماعة القوات المسلحة الثورية الكولومبية؛ ولم تشذّ الهند فتعاملت مع الانفصاليين الكشميريين، ولا إسرائيل التي تعاملت مع منظمة التحرير الفلسطينية.
والولايات المتحدة ليست مستثناة من هذا، فهي تتعامل مع المختطفين منذ تسعينيات القرن الثامن عشر حين دفع جورج واشنطن فدية إلى جماعة القراصنة البربر لتحرير البحّارة الذين وقعوا في قبضتهم في البحر الأبيض المتوسط. وقد عقدت الولايات المتحدة صفقات مماثلة مع إيران في عام 1980 لإطلاق سراح رهائن السفارة الأميركية في طهران، ثم بعد ذلك لإطلاق سراح الرهائن الأميركيين المحتجزين في لبنان.
لكننا قلّما نجد في حوليات التاريخ الطويل لحالات التفاوض حول الرهائن صفقةً واحدة على القدر ذاته من انعدام التوازن والتناسب الذي اتصفت به الصفقة التي عقدتها إسرائيل مع "حزب الله" في الأسبوع الماضي، والتي اقتضت أن يقوم "حزب الله" بتسليم رفات ثلاثة جنود إسرائيليين وتسليم "رجل الأعمال" الإسرائيلي المختطَف في مقابل قيام إسرائيل بإطلاق سراح 429 أسيراً معظمهم من الفلسطينيين مع تسليم رفات 59 مقاتلاً لبنانياً.
وقد زعمت الحكومة الإسرائيلية أن معظم الأسرى المحرّرين لا يشكلون خطراً وأنه ليس بينهم أحد قام بقتل مواطنين إسرائيليين خارج جنوب لبنان. لكن كثيرا من أولئك الأسرى إرهابيون تم إحباط مؤامرتهم. وقد أفادت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية بأن هناك من سمع أحد ضباط الشرطة الإسرائيلية المشرفين على عملية التبادل وهو يتمتم قائلاً: "أتساءل، كم سيمضي من الوقت قبل أن يستأنف هؤلاء نشاطاتهم الإرهابية؟"، وإذا ما حكمنا استناداً إلى الأناشيد التي ردّدها الأسرى الفلسطينيون في طريقهم إلى الحرية وهتفوا فيها قائلين: "الله أكبر ..سنستعيد القدس باللهب والنار"، سنرى أن الكثير منهم في غاية التلهّف إلى المحاولة ثم إعادة المحاولة حتى ينجحوا ويحققوا غاياتهم.
وإن أردتم أن تعرفوا أيّ الطرفين حقق الفائدة الأكبر من الصفقة، فما عليكم إلاّ أن تقارنوا بين ردود الفعل على الجانبين؛ في إسرائيل، أدى استعداد أرييل شارون لعقد هذه الصفقة، وهو مهدد بخطر إدانته باتهامات بالفساد، إلى إحداث انقسام في الرأي العام الإسرائيلي بل وما بين أعضاء حكومته أيضاً. وقد تم إحياء ذكرى الجنود الثلاثة القتلى في مراسم كئيبة، في حين تمت إحالة الحنان تاننباوم "رجل الأعمال" المختطف وبطريقة فظة إلى التحقيق على يد عملاء الأجهزة الأمنية الذين أرادوا أن يعرفوا ما إذا كان متورطاً في تعاملات غامضة.
ولم يكن هناك رقص ولا ابتهاج ولا صياح في شوارع تل أبيب، بخلاف ما شهدته شوارع الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن الابتهاج الأكبر كان في بيروت حيث عمد الشيخ حسن نصرالله زعيم "حزب الله" إلى الوقوف بكل فخر في مراسم استقبال الأسرى المدروسة بعناية إلى جانب الرئيس اللبناني ورئيس الوزراء، في حين كانت راية "حزب الله" ترفرف خفّاقة إلى جانب علم الدولة اللبنانية. ويعزز هذا مكانة "حزب الله" كدولة ضمن دولة-وهو ليس تطوراً يبعث على الارتياح بالنظر إلى أيديولوجية الحزب المعادية للأميركيين واليهود.
تلقت هذه الجماعة الشيعية المدعومة من سوريا وإيران تعزيزاً لا حدّ له بفعل انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، وهو الانسحاب الذي كان في نظر العالم العربي نصره العسكري الأول على الكيان الصهيوني، وهو الاسم الذي يطلقونه في العالم العربي على إسرائيل. وقد تشجع الفلسطينيون من جرّاء ذلك على الظن بأنهم قادرون على بلوغ أهدافهم من خلال العنف، فأطلقوا انتفاضة الأقصى بعد أشهر من الانسحاب الاسرائيلي. والآن تضيف عملية تبادل الأسرى عنصرَ قوةٍ جديدٍ إلى رصيد "حزب الله"، على حد قول صحيفة "الأهرام" المصرية التي أضافت قولها إن العملية تمنح الحزب نصراً آخر ذا شأن في الصراع مع إسرائيل.
وهناك مؤشرات قليلة إلى أن هذه الانتصارات تفتح شهية "حزب الله" إلى الصراع. فمن المعلوم أنه واصل إطلاق النار على شمال إسرائيل، على رغم حذره من أن تثير ممارساته ردوداً انتقامية واسعة من جهة إسرائيل. ومن المعلوم أيضاً أن حسن نصرالله يهدد الآن باختطاف المزيد من الاسرائيليين. أما الشيخ أحمد ياسين الزعيم الروحي لحركة "حماس" فلا يريد أن يبقى في مؤخرة مسرح الأحداث ولذا يتعهد باتباع خطى نصرالله في منهج الاختطاف لكي يطلق سراح أتباعه من السجون الإسرائيلية. وفي هذا كله ما يعيد إلى أذهاننا السبب الذي يوجِب على البلدان أن تتجنب تقديم التنازلات إلى الارهابيين، باعتبار أنها لا تؤدي إلاّ إلى زيادة جرأتهم وإحداث المزيد من الفوضى والخراب.
ويتجسد الأثر