قد لا يجد المتابعون صعوبة كبيرة في فهم التحولات الحاصلة في مواقف الرئيس الأميركي جورج بوش وأركان إدارته في الفترة الأخيرة، والتي بلغت ذروتها الآن بإعلانه عن تشكيل لجنة تحقيق مستقلة، في أوجه القصور التي اعترت أداء الجهات الاستخبارية الأميركية، على نحو أدى إلى إساءة تقدير إمكانيات العراق في مجال أسلحة الدمار الشامل، ما أدى، بدوره، إلى خوض حرب استندت إلى تلك الادعاءات التي فنّدها رئيس المفتشين الأميركيين المستقيل حاليا ديفيد كاي.
فما يسعى إليه الرئيس الأميركي لا يحتاج فهمه إلى عبقرية أو حتى جهد ذهني خارق. لأن بوش، بالمختصر المفيد، لا يهمه، على الأرجح، كشف دقة، أو عدم دقة، ما قاله جورج تينيت وثرثرة أعوان جهازه البيروقراطي، عن صدام ونظم أسلحة الدمار الشامل الوهمية، فهذا حديث تجاوزه الزمن اليوم، بعد أن اندلعت الحرب، وسقط نظام صدام، واحتل العراق.
إن ما يهم بوش، حقا، هو عدم تأثر حملته الانتخابية بمزايدات منافسيه الديمقراطيين، وهذه حقيقة يجب أن نفهم في ضوئها قراره بتشكيل لجنة التحقيق المذكورة، كمجرد مناورة انتخابية وإدارة أزمة لا أكثر ولا أقل. فلجنة التحقيق تلك لن تعلن نتائج تحقيقاتها قبل العام المقبل، بدعوى عدم التأثير على الحملة الانتخابية، وعندها يكون بوش قد خرج من البيت الأبيض، أو، أعيد انتخابه رئيسا لفترة ثانية، وانتهى الأمر، ولو وجهت إليه اللجنة إياها اللوم، في كلتا الحالتين، فسيكون عندها لكل حادثة حديث. ومثل هذه المناورة كما هو واضح ستحرِم منافسيه الديمقراطيين من امتطاء موجة الحديث عن حرب العراق، وما صاحبها من مزاعم وادعاءات خرجت بسرعة من خانة المشكوك فيه إلى خانة الكذب الصريح. فكلما أثار هؤلاء في المناظرات التلفزيونية مسألة الكذب، سيكون رد أعضاء حملة بوش جاهزاً، وهو أن المسألة الآن بين يدي لجنة التحقيق، وعلينا الانتظار، أي أن ورقة الديمقراطيين الرابحة التي يتلهّفون الآن لإلقائها على طاولة الحملة الانتخابية هي ورقة تم اختطافها من قبل جورج بوش سلفا!
دوافع جورج بوش إذن واضحة، وهي، لكي أوجز، مزيج غريب من البراغماتية الأخلاقية، والمكِيدة الانتخابية، والمكر السياسي. غير أن ما يجد المرء صعوبة في فهمه حقاً، هو علاقة رئيس الوزراء البريطاني بالأمر! أعني الطريقة التي ما فتئ توني بلير يبالغ بها في ربط مواقفه وراء المواقف الأميركية، إلى حد أصبح من الجائز أن يتهمه البعض بالتدخل في الشؤون الداخلية الأميركية.
إن طرح المسألة في هذا المستوى يمكن أن يكون مفيداً لفهم آليات عمل بعض الحكومات الغربية، وطريقة ترويضها وإنتاجها للحقائق وتوجهات الرأي العام لديها! فتوني بلير، بالمختصر المفيد، يريد أن يصادر من الأذهان ذلك الانطباع السلبي الذي خلفته مزاعم مرحلة ما قبل الحرب، التي مضى هو شخصياً فيها أكثر مما يجب، ولعب دور المحامي، والناطق الرسمي، والدبلوماسي، ووكيل العلاقات العامة، دفعة واحدة، (ولعب أيضا دور المخبِر السري الماكر القادر على التغلغل في دهاليز نظم صدام لأسلحة الدمار الشامل).
الآن يريد توني بلير عدم دفع أي ثمن أدبي أمام الرأي العام البريطاني، كما يسعى حليفه بوش إلى الغاية نفسها في واشنطن. أما الرأي العام العالمي فالأرجح أن الرجلين لا يضعانه في حسابهما، في الظرف الراهن على الأقل.