حضرت المباراة النهائية لبطولة كرة القدم الأميركية.. بيد أنني كنت منزعجا بشأن العرض الذي أقيم بين شوطي تلك المباراة.
لم يكن سبب انزعاجي هو تلك الهزليات المبتذلة التي قدمتها "جانيت جاكسون" فقط ..ولكن شيئا آخر أيضا. كان السؤال الذي نغّص علي هو كيف يمكننا أن نقدم لأميركا وللعالم عرضا على هذا القدر من المرح والهزل في الوقت نفسه الذي يوجد لنا 115 ألف جندي يخوضون حربا في العراق، ويموت منهم واحد في المتوسط يوميا؟
نعم لقد أصبح عبء هذه الحرب برمته واقعا على كاهل كادر صغير من الأميركيين وهم الجنود وعائلاتهم، أما باقي الشعب الأميركي فهم يواصلون حياتهم كالمعتاد.. وكأن ما يحدث لهؤلاء لا يعنينا، ولا شأن لنا به.
والذي يزعجني أكثر من ذلك هو أن هذا الانقسام للشعب الأميركي هو تحديدا الشيء الذي يريده فريق بوش. فمنذ البداية تبنى هذا الفريق فكرة أن الحرب في العراق سوف تتم إدارتها بواسطة "البنتاجون" وحده. لم يكن هذا الفريق يريد وزارة الخارجية ولا يريد سماع شيء عن فكرتها بشأن بناء الأمم". ولم يكن يريد الأمم المتحدة ولا يريد حلفاء أميركا التقليديين، كما لم يكن يريد الشعب الأميركي بالذات. كانت الرسالة القادمة من البيت الأبيض تقول: "عليكم جميعا أيها الأميركيون أن تواصلوا حياتكم كالمعتاد، وتستمتعوا بأوقاتكم، وتنفقوا ما توافر لكم من أموال بفضل الخفض الضريبي، ولا بأس من أن تستمتعوا كذلك بالعرض الذي يقام بين شوطي المباراة النهائية في دوري كرة القدم الأميركي، أو تشتروا سيارة " همر" .. أما الحرب فاتركوها لجنودنا المتطوعين. ليس مطلوبا منكم تقديم تضحيات، ولن نحمّلكم ضرائب جديدة للإنفاق على هذا المسعى طويل الأمد، وليس هناك من حاجة لتقليل استهلاككم من وقود السيارات حتى لو كان ذلك سيساعدنا على حرمان قوى "عدم التسامح الإسلامي" من تلك الأموال التي يستخدمونها في النهاية في قتل جنودنا. ليس بكم حاجة إلى ذلك كله، فنحن أمة غنية جدا وقوية للغاية وعلى صواب تام، ونحن قادرون على كسب تلك الحرب دونما احتياج إلى أي طرف غير قواتنا المسلحة، المستعدة لدفع أي ثمن وتحمل أي عبء".
إن هذه الرؤية في رأيي تعاني من إفلاس أخلاقي واستراتيجي. إفلاس أخلاقي لأن واحدا في المئة فقط من الأميركيين هم الذين يتحملون عبء هذه الحرب بأكملها.
بعد أن حضرت تلك المباراة، ذهبت إلى "تامبا" لزيارة المقر الرئيسي للقيادة الوسطى ورؤية الجنرال جون أبي زيد وهيئة أركانه الذين يديرون الحرب في العراق. وهناك قابلت العديد من الجنود بدءا من النساء اللائى يخدمن كمحللات في مركز الاستخبارات، إلى المخططين الاستراتيجيين العائدين توّا من بغداد.
على رغم كل ما قلته فإنني لاحظت أن الروح المعنوية لهؤلاء، وحرفيتهم، وإيمانهم بالمهمة التي يقومون بها مرتفعة لدرجة تدعو إلى الدهشة. وإنني أنصح أي أميركي يريد أن يجد الترياق الشافي للقشعريرة التي أحسّ بها وهو يشاهد العرض الذي أقيم بين شوطي المباراة النهائية لكرة القدم الأميركية.. أن يقضي يوما في " تامبا". إنني أعِده بأنه سوف يغادر المكان في نهاية اليوم وهو يحس بشعور قوي وهو: أننا لا نستحق هؤلاء الأفراد، وأنهم أفضل من الدولة، وأفضل من الإدارة اللتين يحاربون من أجلهما. نحن ندين لهم بقدر كبير من الاحترام، وندين لهم بقدر كبير من التضحية من جانبنا، كما أن الإدارة تدين لهم بتوفير قيادة أفضل من فريق بوش الذين لم تكن خطيئتهم هي المبالغة في تقدير التهديد الذي كان يمثله صدام حسين، ولكنها تمثلت في إرسال هؤلاء الجنود لخلعه من الحكم، دون وجود خطة مناسبة للصباح التالي.
علينا أن ننظر إلى ما حدث منذ عدة أيام للأكراد.. هذا الشعب الجبلي المعتز بنفسه الذي نجح في بناء ديمقراطية لائقة صغيرة، وسوقا حرة في شمال العراق، كي يفاجأ بتفجير ذلك بواسطة هجوم انتحاري من قِبل الإسلاميين.. ما علينا سوى أن ننظر إلى ما حدث للأكراد كي نتذكر أن الحرب التي نخوضها هناك هي حرب عادلة. إنها حرب قوى التسامح والتعددية والتحضر ضد قوى عدم التسامح، والتعصب والفاشية الدينية.
وكان تعليق زميلي"جورج باكر" الصحفي بجريدة "نيويوركر" والذي كتب عدة تقارير رائعة من العراق على ذلك هو: " إن الخطأ الكبير الذي ارتكبه المحافظون الجدد وارتكبته هذه الإدارة، هو أنهما قد اعتقدا أن أميركا تستطيع أن تخوض تلك الحرب بمفردها. لقد تناسيا أنه لم يكن بمقدورنا أن نكسب الحرب الباردة دون دعم من حلفائنا الديمقراطيين في الخارج، ودون تضحيات حقيقية في الوطن. ونحن لن نستطيع كسب هذه الحرب أيضا دون هذين العاملين. إن الحرب التي نخوضها هي حرب أفكار كبيرة تحتاج إلى مشاركة من شعبنا ومن حلفائنا. ولكن إدارتنا للأسف لم تستوعب ذلك أبدا".
نحن نستطيع أن نهزم صدام بمفردنا، ولكننا لا نستطيع أن نبني مركزا ديمقراطيا لائقا في العراق بمفردنا لأنه ليست لدينا شرعية كافية، ولا قدرة على البقاء ومواصلة ما بدأناه حتى النهاية. نحن بحاجة إلى تجنيد كافة حلفائنا بما في