الموقف الفرنسي من قضية الحجاب فرض علينا لأول مرة مناقشة قضية "الجاليات" العربية والمسلمة في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية من منظور واسع. فالقضية لا تخص بلدا بعينه وهي أبعد وأعمق من أن تحصر في المجال السياسي وهي ليست متعلقة بلحظة ما من التاريخ على رغم أن فيها ذلك كله.
ولأول مرة أيضا نتحرر من مناقشة قضايا العرب والمسلمين فى أوربا الغربية وأميركا الشمالية أو "عرب المهجر" بطريقة انتهازية. وكانت عدة دول عربية قد "اكتشفت" في لحظات مختلفة من ربع القرن الماضي أن "مواطنيها" في هذه المناطق يمكن أن يكونوا مصدرا للاستثمارات أو أداة طيبة للتأثير السياسي. وغالبا ما ينتهى هذا النوع من التفكير إلى لا شيء بعد مهرجانات كثيرة واحتفالات ومؤتمرات. فتحل الوزارات التي تكونت خصيصا لهذا الغرض وينسى الجميع الاتحادات التي تأسست والقوانين التي صدرت أو "توجيهات الرئيس" التي احتلت مواقع رئيسية في الصحف وقت اللزوم.
ونتيجة لأسباب كثيرة قد يعجب المرء لأن الظروف لم تسمح للجاليات العربية في الخارج بأن تلعب دورا مهما في التطور الحضاري والثقافي لبلادها الأم مثلما فعلت الجالية الصينية أو الهندية أو الآتية من بعض البلاد اللاتينية. بل إن ما حدث هو العكس. حيث ظلت التطورات الثقافية والسياسية في البلاد الأم تلعب دورا جوهريا في حياة تلك الجاليات وهي على بعد مئات أو آلاف الأميال.
ولم يمنع ذلك من أن تناقش العناصر المفكرة والمنظمة من الجاليات العربية والمسلمة تلك القضية بشيء من العمق. فظهر اتجاه يقول إن العرب أو المسلمين في بلاد المهجر هم جزء لا يتجزأ من المجتمع الجديد الذي اكتسبوا مواطنته. وأن عليهم أن يفكروا بأنفسهم كأميركيين أو أوروبيين أو أستراليين عرب أو مسلمين. بل وتعمل كثير من المنظمات العربية والإسلامية باعتبارها مؤسسات عضوية لهذه الجاليات. وهم بهذا يتحولون إلى جماعات من المواطنين لهم هوية مميزة وليسوا امتدادا مؤقتا للبلاد العربية أو المسلمة هناك كما كان الحال بالنسبة للاتحادات الطلابية المبكرة مثلا. فالأصل أن الهدف من الدراسة هو العودة. أما قرار الإقامة والتوطن فيحتاج إلى عقلية مختلفة ومن ثم مؤسسات عضوية مناسبة.
ولا شك أن تلك الفكرة جديرة بالاحترام وهو ما يفرض الاعتراف بأنه سيكون من السخف أن نفرض وصاية على هذه الجاليات العربية أو أن نستمر في النظر إليها بصورة منفعية أو انتهازية سواء في مجال الاقتصاد أو السياسة أو الثقافة.
ولكن ذلك لا يمنع من التفكير في طبيعة ومستقبل هذه الجاليات العربية ناهيك بالطبع عن تقديم صور المساندة والدعم. وربما يكون قد آن أوان التفكير الهادىء بعد المساجلات العصبية حول قضية الحجاب وخاصة في مصر. فكثيرا ما لا ننتبه الى أن الموقف من قضية جزئية ما قد ينتهي إلى صدور حكم عام يكيّف تطور الجاليات العربية والملسمة على المدى البعيد دون أن يكون ذلك مقصودا. فبعض فقهائنا الكبار استنبط أحكامه من قضية الحجاب مما يسمى "فقه الأقلية": أي مجموع الاحكام الشرعية التي تخص أقليات مسلمة في بلاد "غير مسلمة". ولكن هذا التكييف للأحكام والمواقف من قضية ينظر إليها باعتبارها قضية دينية مثل الحجاب قد تثبت نظرة المسلمين والعرب في هذه البلاد لأنفسهم باعتبارهم أقلية في جميع النواحي الأخرى وليست الناحية الدينية وحدها. فهل هذا هو ما نبغيه لهم أو ما يبغونه هم لأنفسهم على المدى الطويل؟ وهل هذا هو ما يجب أن تكون عليه علاقة البلاد الأم بهم.
لا شك أن هذا هو ما يريده كثيرون من أبناء الجاليات العربية والمسلمة وخاصة في أوروبا. فهم يصوغون وجودهم في هذه البلاد من خلال مفهوم الهوية. وهم يريدون لأنفسهم هوية "مستقلة" أو "منفصلة". ويبحثون عن صياغات ثقافية وسياسية ومؤسساتية تتلاءم مع هذا التكييف. وحتى لو لم يتطور موقف واع يتبنى هذه الصياغة "الأقلوية" لوجود العرب والمسلمين فبعض المنظمات في أوروبا وأميركا تقوم في الواقع العملي بممارسة السياسية من "منظور أثني أو أقلياتي". ويتفق في ذلك مثلا المعهد العربي الذي يتمتع بنفوذ أكبر بين المسيحيين العرب في الولايات المتحدة ومنظمة "كير" أو مجلس العلاقات الاسلامية الأميركية وهي تتمتع بنفوذ أكبر على المسلمين عربا وغير عرب. فطالما أنهم يتوجهون للعرب أو المسلمين باعتبارهم كذلك ويطالبونهم بممارسة السياسة من هذا المنطلق سيكون الناتج شيئا قريبا من "سياسات الاقليات". ويتلاءم هذا الموقف مع التطورات الفلسفية والثقافية فى بعض بلاد المهجر وخاصة كندا وبدرجة أقل الولايات المتحدة. فلم تكن لدى كندا مزاعم "قومية" تقول بصهر المهاجرين من مختلف الأصول القومية والثقافية فى بوتقة واحدة لتكوين أمة. وحتى في الولايات المتحدة التى شكل هذا الزعم أساس شخصيتها السياسية والثقافية لردح طويل من الزمن كان من المعتقد قبل سنوات قليلة أن نظرية "بوتقة الإذابة" هذه بدأت في الانحسار تأكيدا للحق في التنوع كما تشير مدرسة "ما بعد الحداثة".
ولكن مدرسة ما بعد الحداثة