العلة المركزية التي يعاني منها التاريخ الإنساني هي تلك الفكرة القائلة إن الغايات تبرر الوسائل، والتي تبنتها بشكل كارثي جميع أطياف الحركات السياسية من أقصى اليمين لأقصى اليسار، العلماني منها والديني على حد سواء. من الأمور التي لا تحتاج إلى دليل أو إثبات، أن الوسائل غير الأخلاقية لابد وأن تفسد الغايات النبيلة، وذلك كما تبين عبر التاريخ بدءا من المصير الذي انتهى إليه غرور الإمبراطورية الرومانية، مرورا بسياسات الإبادة التي قام بها القوميون، والشيوعيون، والإمبرياليون خلال القرن الماضي، ووصولا للمفجرين الانتحاريين في عالم اليوم.
بيد أن هذا الموقف الممعن في لاأخلاقيته. تم تبنيه من قبل الرئيس بوش في سياق تبرير حربه الاستباقية ضد العراق، حتى في الوقت الذي تبين فيه أن التهديد العراقي، الذي طنطنت به الإدارة الأميركية طويلا، كان قائما على جهل لا يغتفر في أحسن الأحوال، وعلى غش يستوجب الإدانة.
إن الوسائل غير الديمقراطية التي لجأت إليها إدارة بوش في تضليلها للشعب الأميركي، والكونجرس، والأمم المتحدة، يتم الآن، وبشكل ما، تبريرها بحجة "بناء الديمقراطية" في العراق. وهذا يمثل تحديا صعبا، لم يوقع عليه الشعب الأميركي أبدا بالقبول، ويبدو الآن كهدف صعب المنال تماما مثلما كان منذ عام خلا.
مرة أخرى نبدو غير مستعدين للاستيعاب الكامل لدرس حرب فيتنام، تجربتنا الأخرى الكبيرة في الحرب الاستباقية، التي قامت على مزيج من نظريات المثقفين القابعين في أبراج عالية، وأحلام "الباكس أميركانا" ( السلام الأميركي). وهؤلاء المحتاجون إلى دورة إنعاش تساعدهم على تذكر تلك الحماقة السابقة، التي مزقت دولتنا، ودمرت ثلاث دول أخرى، عليهم أن يتفحصوا الوثيقة الجديدة المسماة " ضباب الحرب" التي يقر فيها مهندس مغامرة فيتنام"روبرت مكنمارا" وهو دامع العينين، بأن تلك المغامرة مثلت خطأ فادحا. إن ذكريات ذلك الصراع الذي استمر لعقد من الزمان، قد عادت إلينا بفضل الديمقراطيين في الأساس-الذين لا يزال واحد منهم وهو " جون إف. كينيدي" محل إعجاب كبير. في وثيقته الجديدة يحاول "مكنمارا" أن يدلل على صواب حجته القائلة إن " كينيدي " كان يريد الانسحاب من فيتنام ولكن جرى اغتياله قبل أن يشرع في ذلك. هذه بالطبع نظرية لا تنطلي على أحد، لأن الخروج من فيتنام كان يمثل الشيء الأصعب في الموضوع برمته. السبب في ذلك هو أنه بمجرد أن يقوم رئيس أميركي ما بنشر كذبة في الخارج تقول إنه قد قام بغزو بلد لكي يقوم بإنقاذه، فإن قيامه بالتخلي عن مثل ذلك الغزو- الذي يفترض أن يكون مقدسا في هذه الحالة- بمجرد أن تبدأ الأمور على الأرض في التحول نحو الأسوأ، يمثل انتحارا سياسيا بالنسبة له.
أما اليوم.. وفي العراق، فقد تجرعنا حتى الثمالة من تلك الحجة التي تقول إنه ليس من قبيل المسؤولية أن نقوم بالانسحاب الآن من ذلك البلد، على رغم أنه قد غدا واضحا لكل ذي عينين أن وجودنا هناك لم يعد محل ترحيب. أما هؤلاء الذين يجرؤون على القول، إن استمرار تواجدنا في العراق كمحتلين يمثل في الحقيقة جزءا من المشكلة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، المرشح للرئاسة " دينيس كوسينيتش" النائب الديمقراطي عن ولاية "أوهايو"، فيتم التشهير بهم ووصفهم بأنهم " غير واقعيين".
علينا أن نعرف أن محاولة تغيير تواريخ الشعوب الأخرى ، مع القيام في الوقت نفسه بخدمة أغراضنا الاقتصادية والسياسية، لابد وأن يقودنا إلى التورط في مستنقع، وإلى تعرضنا لضربات مضادة، وإلى دخولنا في دائرة اللامنطق عندما نجد أنفسنا نحاول أن نثبت حقائق مستقبلية بناء على أكاذيب سابقة هي: أننا لم نذهب إلى العراق كي ننقذه، ولكننا مضطرين الآن إلى إنقاذه لتبرير حقيقة أننا قد ذهبنا إلى هناك بالفعل.
وهذه الشبكة المعقدة الخيوط لا يمكن أن تصبح أقل تعقيدا، سواء تم نسج خيوطها بواسطة الجمهوريين "بوش" و" تشيني" أو من قبل الديمقراطيين "جون كنيدي" أو "ليندون جونسون". فالآن، وكما في الماضي، لم نر في المراحل المبكرة من الحرب، سوى معارضة فاترة من النخبة السياسية أو الإعلامية لتقنية الأكاذيب الكبيرة التي غالبا ما تصاحب الحرب. فمعظم كبار المرشحين الديمقراطيين لمنصب الرئاسة، على سبيل المثال، يشعرون بحرج بالغ لأنهم ساندوا في البداية غزوا، كانوا يجب أن يعارضوه بشدة قبل أن يتم شنه.
مع ذلك فإنني أرى أن الوقت لم يتأخر كثيرا كي يقوموا بالاعتراف بأنهم قد خدعوا من قبل بوش، وهو ما بدأ بعضهم يقوم به بالفعل. ونحن نحمد الله ، أن حملة السيناتور "جو ليبرمان" النائب الديمقراطي عن ولاية " كونيكتيكت" قد أصبحت في موقف حرج. لماذا ؟ لأن هذا السيناتور قام بشكل دائم بتأييد الإساءة العبثية لاستخدام الحقائق من قبل إدارة بوش، وهو ما يتضح من خلال التصريح الذي أدلى به اخيرا وقال فيه:" إن غزو العراق كان إجراء (عادلا) لأن صدام حسين نفسه كان يمثل سلاحا من أسلحة التدمير الشامل". وهو كما نرى، تلاعب غبي وخطير باللغة والحقائق.
الشيء ا