كما أن مصر وإيران تشكلان قطبي الرحى في الوطن العربي والعالم الإسلامي في الجناح الشرقي فكذلك سوريا وتركيا تشكلان قطبي الرحى في الوطن العربي والعالم الإسلامي في الجناح الشمالي. وقد تزامنت بداية تطبيع العلاقات بين مصر وإيران مع بداية إعادة جو التفاهم والحوار بين سوريا وتركيا توسيعا لمفهوم الأمن القومي العربي إلى دول الجوار في الشرق والشمال وخاصة أنها كانت عبر التاريخ جزءا من كيان سياسي واحد ابتداء من دولة الخلافة حتى العصر الحديث في مؤتمر باندونج، ومنظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا، ومجموعة الأربع وعشرين الجديدة في آسيا وأفريقيا في مواجهة مجموعة الثماني الأكثر تصنيعا في قلب العولمة.
لقد كانت سوريا جزءا من الدولة العثمانية. وكانت دمشق أول عاصمة للخلافة، وأسطنبول آخرها. بل كان أبو الهدى الصيادي وهو سوري الأصل من أنصار الدولة العثمانية واستمرارها بما فيها من عيوب، القهر والتخلف، في مواجهة الإصلاحيين وحزب اللامركزية وجماعة "تركيا الفتاة".
وحافظت تركيا في العصر العثماني على التراث العربي الإسلامي. وبها أكبر قدر من المخطوطات العربية في مسجدى أحمد الثالث والسليمانية. وبها نشأت أكبر حركة تجميع للتراث، عصر الشروح والملخصات والموسوعات الكبرى، حفاظا عليه من الضياع بعد الغارات المستمرة على العالم الإسلامي من الشرق مرتين، التتار والمغول، ومن الغرب مرتين، الفرنجة أي الصليبيون والاستعمار الغربي الحديث.
ومسار التاريخ يتحول ويتغير ويتبدل ولكنه لا ينقطع. فالتاريخ حركة مستمرة. ولا شىء فيه يضيع أو يتبدد. ويظل الموروث الثقافى قابعا في الوعي التاريخي للشعوب. فما بين سوريا وتركيا هناك موروث ثقافي مشترك، الموروث العربي الإسلامي الذي استأنف الموروث اليوناني الروماني، مهما تبنت تركيا التيار العلماني منذ الثورة الكمالية في أوائل العشرينيات، ومهما تبنت سوريا التيار القومي قبل ذلك بقليل، نحو عقد من الزمان.
بدأت عوامل التفكك في الدولة العثمانية. فلم تكن لتستطيع بمركزيتها الشديدة السيطرة على أرجاء العالم الإسلامي من البلقان غربا حتى الهند شرقا. وبدأ اضطهاد الأقليات الداعية للانفصال هروبا من الظلم العثماني، الأرمن في شرق الإمبراطورية وشعوب البلقان في غربها، وحركة القوميين العرب في جنوبها. وروسيا تريد أجزاء منها في الشمال في حرب القرم وفي الشرق في أواسط آسيا. والقوى الغربية الاستعمارية الكبرى تريد تقطيع أوصالها لالتهام أجزائها فيما عُرف في القرن التاسع عشر باسم "الرجل المريض".
نشأت حركة القومية العربية عن حق ضد المركزية العثمانية وكرد فعل على القومية الطورانية وهربا من اضطهاد العثمانيين للحركة باعتبارها حركة انفصالية مثل باقي الحركات القومية التي لم تستطع الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف والمفككة من الداخل صهرها في دولة متعددة القوميات ومتساوية فيما بينها أو في ثقافة إسلامية واحدة توحد بين القوميات إذ "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح". وعلقت المشانق لقادتها في دمشق في أوائل العقد الثاني من القرن الماضي. وبدأت كتابات القوميين العرب بالفرنسية أولا عن "الأمة العربية" ثم تعددت الكتابات بالعربية ثانيا ابتداء من كتابات ساطع الحصري حتى ميشيل عفلق وصلاح البيطار وغيرهم.
بل لقد غالى بعض المؤرخين الأجانب أولا والإسلاميين ثانيا في الحكم على الحركة القومية العربية أنها نشأت بمساعدة الغرب، خاصة بريطانيا، باعتبارها حركة انفصالية طالما تدعو إلى انفصال العرب عن الأتراك مما يضعف وحدة الأمة الإسلامية. لذلك دعا الأفغاني إلى وحدة العرب والأتراك، ووحدة العرب والعجم، حرصا على وحدة دولة الخلافة مع الدفاع عن اللامركزية للتخفيف من سلطة اسطنبول وتحقيق مطالب القوميات كحل وسط بين الانصهار والانفصال. فقد عاونت القوى الغربية على نشأة سلطة عربية ممثلة في معاهدة سايكس-بيكو. وتفاوض الشريف حسين مع ماكماهون على نقل بعض أفراد العائلة المالكة من شبه الجزيرة العربية إلى الشام والعراق وتنصيب ملوك على الدولتين. وحارب لورانس مع العرب ضد الأتراك، بل لقد ادعى البعض أن فكرة الجامعة العربية فكرة بريطانية. وكانت المحصلة أن استبدل العرب بالمستعمر التركي المستعمر البريطاني بعد أن تخلت بريطانيا عن وعودها بإنشاء دولة عربية مستقلة إذا ما انفصل العرب عن الأتراك. وأعطت وعودا أخرى، وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود عام 1917.
واستمر التوتر قائما بين سوريا، قلب العروبة الجديد، وتركيا إلى أن حدث شبه قطيعة بين السلطنة والولاية عندما اقتطعت تركيا القومية لواء الاسكندرونة وعاصمته أضنة وضمته إليها في صحوة استرداد الأراضي الوطنية وطرد المستعمر اليوناني الذي كان على أبواب أنقره. لذلك قام الضابط مصطفى كمال بالانقلاب على السلطنة عام 1921 دفاعا عن الوطن الأم، وألغى الخلافة بعدها. وأصبح الفضل للجيش وللقومية الطورانية والعلمانية في استرداد تركيا لكرامتها واستقلالها ووطنها ضد الانكشار