قدمت كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس بوش لشؤون الأمن القومي وصفاً لعملها منذ أيام قليلة وقالت إنه يقتضي منها ترجمة دوافع الرئيس وغرائزه إلى سياسة. وقد أضافت رايس قولها إن الرئيس يؤثر فيها بقدر ما تؤثر هي فيه.
إن الزمان قد تغيّر، ولكل زمان دولة ورجال. ففي عام 1947، لم يكن لمجلس الأمن القومي وجود حين تم استحداثه مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ومكتب وزير الدفاع بموجب مرسوم واحد. أما أعضاء المجلس فيتم تعيينهم فيه بموجب القانون، وهم الرئيس، نائب الرئيس، وزير الخارجية ووزير الدفاع. وفي البداية لم يكن هناك وجود لمنصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي. وفي عام 1949، قام مجلس الأمن القومي باستحداث منصب السكرتير التنفيذي، وهو منصب تحوّل مع مرور السنوات إلى منصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، وتم إلحاق عدد كبير من الموظفين به.
وقد تواصل توسّع نطاق دور المستشار هذا لا سيما مع مجيء هنري كيسنجر إليه في عهد ريتشارد نيكسون، ثم زيبغنيو بريجينسكي في عهد جيمي كارتر. وقد كان انعدام ثقة الرئيس نيكسون بوزارة الخارجية عميقاً وشاء أن يقوم كيسنجر بإدارة السياسة الخارجية انطلاقاً من البيت الأبيض ودون أي اعتبار لتلك الوزارة. وببساطة عمد كارتر إلى انتقاء سايروس فانس وجعله وزيراً للخارجية واختار زيبغنيو بريجينسكي الذي يحمل آراءً ووجهات نظر مختلفة بخصوص الحرب الباردة ليضعه في منصب مستشار لشؤون الأمن القومي.
وبالنظر إلى هذا التاريخ، لا نجد في وصف السيدة رايس لعملها قدراً كبيراً من التعزيز والتجميل، كما لا نجد فيه تشبثاً أقل بالسلطة. وكما تكشف الحالات السابقة، تقدم العلاقة ما بين الرئيس ومستشارة الأمن القومي انعكاساً لمسألة كيفية ميل رئيس ما -أي رئيس- إلى اتخاذ قرار ما وأسلوب التوصل إليه.
وعلى رغم ذلك، يبقى لدينا سؤال جدير بالطرح يقول: ماذا حدث لدور نائب الرئيس الأميركي ودور كل من وزير الخارجية ووزير الدفاع؟ من الغريب هنا أن يكون الرئيس بحاجة إلى شخص ما يتولى عملية تأويل وترجمة دوافعه الطبيعية وغرائزه. فمن المعلوم أن معظم الرؤساء الأميركيين يبدؤون بآراء واضحة التعريف والملامح في دور الولايات المتحدة في العالم. ومن الممكن للمرء عموماً أن يحكم على منهج الرئيس في صنع السياسات استناداً إلى ما قاله ذلك الرئيس في الماضي عن منهجه. لكن الرئيس جورج دبليو بوش كان قليل الكلام إلى حد مدهش حول هذا الموضوع قبل أن تقع تلك الهجمات الارهابية على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر.
لكنه لم يستغرق وقتاً طويلاً حتى قام بإنتاج إطار عمل خيالي غريب ومخيف وغير مألوف والغاية منه حماية الولايات المتحدة في خضم عالم انعدم فيه الأمن والأمان. ولذلك تم إبعاد وتحييد المؤسستين اللتين تم إنشاؤهما بعناية فائقة في حقبة الحرب الباردة، وهما هيئة الأمم المتحدة ومنظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو". وعلى رغم أن هاتين الهيئتين ما زالتا موجودتين حتى الآن، إلاّ أنهما تفتقران إلى الأهمية التي منحها المؤسسون لهما، باعتبار أن تعددية الأطراف خرجت من الباب فدخلت منه الأحادية والانفرادية.
وقد اختفت أيضاً العقيدة التي تنادي برفض المبادرة باستخدام الأسلحة النووية، وعمد الرئيس بوش إلى الموافقة على مبدأ الحرب الاستباقية. ولو أن بوش رأى أن ذلك سيثير فزع البشر في أميركا خارجها، لكان على صواب؛ لكن الدافع الذي دفعه إلى ذلك إنما هو غريزة كان ينبغي أن تجري إعادة معاينتها قبل أن تتم ترجمتها إلى سياسة. ذلك أن الأمر يعطي معاني أعمق للتصريح الذي أدلت به رايس وقالت فيه إن الرئيس يؤثر فيها بقدر ما تؤثر هي فيه. وعلى أقل تقدير، كان ينبغي أن تكون الحرب الاستباقية موضوعاً يدور حوله من الجدل مقدار أكبر بكثير مما دار فعلاً في الكونغرس أو مما صدر عن الجمهور الأميركي. وقد كان من شأن ثقة كل من الرئيس وكوندوليزا ودماغ "البنتاغون" أن يحققوا أداءً جيداً إذا استعادوا إلى ذاكرتهم أزمة الصواريخ الكوبية، حيث لم يسبق للعالم على الإطلاق أن وقف على شفير حرب نووية مثلما وقف أثناء تلك الأزمة. ولم يتم تجنب تلك الحرب إلاّ لأن الرئيس الأميركي جون كينيدي والرئيس السوفييتي خروتشوف قاما بعد تجاوز بعض مستشاريهما بالتراجع في اللحظة الأخيرة ونجحا في تسوية القضية على نحو ودّي.
وقد أدار الزعيمان الأزمة بقيام كل منهما بسحب الأسلحة التي يرى الطرف الآخر أنها تهدده- وهكذا سحب كينيدي الصواريخ الأميركية من تركيا، وقام خروتشوف بسحب الصواريخ السوفييتية من كوبا.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أن كل رئيس يقوم بصياغة السياسة الخارجية بالطريقة التي تلائمه، فما هي عوامل التقييد العريضة التي تصوغ العلاقة بين الرئيس ومن يشغل منصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي؟ فبدلاً من أن تقوم المستشارة الآن بترجمة الدوافع والغرائز الرئاسية إلى سياسة، فإنه سيكون مثيراً للاهتمام أن نرى ما سيحدث لو أن وظيفة المستشارة تلك قد تم تعريفها بأنها تقتضي تقيي