يقول خبراء الدراسات الاستراتيجية إن السودان بوصفه الجغرافي الحالي وبامتداده الأثني المزدوج بين العرب والأفارقة يمثل واقعاً بالغ الأهمية في كيان الأمن القومي العربي، ولهذا فإن أي خلل أو تحول في هذا الواقع أو تبدل فيه من شأنه أن يؤدي إلى اضطراب في ذلك الكيان ويشكل ثغرة أو ثغرات تصب بصورة تلقائية في مصلحة الأمن القومي للعدو المباشر والأول للكتلة العربية وهو الكيان الصهيوني القائم في إسرائيل. ويقول بعض أهل هذه الدراسات إن الأمن القومي العربي يكفيه ما لحق به من أذى بما حدث في الجناح الشرقي منه وهو العراق الذي وقع منذ الربيع الماضي في يد الحليفين الأعظم لإسرائيل وهما الولايات المتحدة المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة.
نضع هذه الحقائق الصارخة أمام أعيننا ونحن نمعن التفكر في المرحلة القادمة من تاريخ الحكم في السودان وبداية العد التنازلي بعد توقيع اتفاقية السلام نحو مرحلة الاستفتاء على مصير السودان للإبقاء عليه موحداً أو تقسيمه إلى دولتين إحداهما عربية إسلامية في الشمال وأخرى أفريقية علمانية في الجنوب. إن ذلك الموعد سيحل بعد ست سنوات هي المرحلة الانتقالية، وهي فترة ليست طويلة كما قد تبدو عندما يكون الأمر متعلقاً بمصير شعب بأكمله. ولمواجهة أسوأ الاحتمالين عند إجراء الاستفتاء فإن كل ما استطاعت الدول العربية أن تفعله هو أن تكلف جامعة الدول العربية بالإشراف على ذلك الملف، وهو ما شرع فيه فعلاً قبل عام أو نحو ذلك. ولعلنا لا نعترف للقائمين على أمانة الجامعة العربية بحقهم إذا ذكرنا أن سجل هذه المؤسسة على امتداد عمرها البالغ نحو ستين عاماً ليس فيه ما يدفع إلى التفاؤل بأنها ستكون قادرة على تحقيق المهام المطلوب إنجازها وهي باختصار وضع كل الثقل العربي السياسي والاقتصادي والدبلوماسي وتجديده بأساليب نشطة وحية وخلاّقة لإقناع المواطن الجنوبي بأن مصلحته في البقاء في سودان موحد وليس في الانفصال.
والملاحظ هنا أنه على طول العام الذي انقضى كان تمركز جهد الجامعة العربية يتجه بأكمله نحو العون العربي المالي لجنوب السودان، فجرى ويجري الحديث عن اعتمادات مالية للإنفاق على البنية التحتية في الجنوب وتعمير ما خربته الحرب الطويلة من إصلاح للطرق والجسور وإعادة فتح المدارس والمستشفيات... إلخ إضافة إلى إيجاد صندوق للاستثمار طويل المدى في الجنوب. وعندي أن كل هذا مرغوب ومطلوب ولكنه ناقص مبتور لن يكون وحده كافياً لإقناع أغلبية أهل الجنوب بالتصويت للوحدة. ولنذكر هنا أن إنفاق الأموال بهذه الطرق وما إليها قبل نصف قرن كانت له نتائج سلبية بالنسبة لجمهورية مصر التي أنفقت ملايين الجنيهات في السودان شماله وجنوبه أملاً في أن يكون الاستفتاء على مصير السودان عام 1955 هو الوحدة مع مصر وليس الاستقلال التام. إن هذه التجربة التي لم يمضِ عليها الآن أكثر من خمسة عقود ينبغي أن تظل ماثلة في عقول الأساتذة الذين يتولون هذا الأمر في جامعة الدول العربية وحاضرة كذلك في أذهان القادة العرب.
إن الكتلة العربية لها تجارب أكثر نضجاً من هذا الذي تمارسه الجامعة العربية في قضية جنوب السودان ذات البعد الأمني العربي وهناك على سبيل المثال إقناع واستمالة عشرات الدول الأفريقية منذ النصف الثاني من عقد الستينيات وحتى يومنا هذا بالوقوف مع العرب في قضيتهم المركزية فلسطين، وهو ما تؤكده قرارات القمم الأفريقية المتتابعة. ولعلي اكتفي اليوم بهذا المثال مؤكداً ما أسلفت من أن أسلوب المنح والعطايا مهما عظم لن يكون كافياً لترجيح ميزان الوحدة ضد الانفصال.