بالعودة إلى الوراء، بات واضحا أن الهزيمة العربية الفادحة في يونيو من عام 1967، فتحت الباب سريعا -ولو على نحو موارب في البداية- لإمكانية الحديث والبحث الجدي عن تسوية عربية إسرائيلية. وعلى قاعدة (اشتدي أزمة..تنفرجي)، أو على أساس أن السقف المرتفع والمتشدد للخطاب السياسي - يسمح -في ظل الستار الدخاني المرافق- بمرور (بالأحرى، تمرير) ما لم يكن قابلا للتمرير، جاءت اللاءات الثلاثة للقمة العربية المنعقدة في العاصمة السودانية الخرطوم في سبتمبر 1967 وأعلنت بالفم الملآن: (لا صلح، ولا اعتراف، ولا مفاوضات...مع إسرائيل)! وهذه القرارات كانت -فيما تؤكده الوقائع الآن- قرارات استهدفت، عند البعض على الأقل، خدمة أغراض (شعبوية) أطربت الجماهير العربية، نعم، لكنها فتحت الباب (نكرر: ولو مواربا) أمام جهود (تحتية) و(تحتانية) جرت بمبادرة من بعض أطراف تلك (القمة) بهدف استكشاف إمكانية التسوية التي -لا محالة- ستقود إلى صلح واعتراف بالدولة الصهيونية بعد أن تسبقهما مفاوضات ستكون -قطعا- سرية عبر طرف ثالث أو رابع أو خامس! وفي هذا السياق، يؤكد ايلي فودة (المحاضر البارز في قسم الدراسات السلامية في الشرق الأوسط ورئيس وحدة الشرق الأوسط في معهد ترومان) أن (الدعاية الإسرائيلية أجادت وأحسنت تسويق هذا المنتوج (لاءات الخرطوم) إلى درجة تناست أن العرب قد أعطوا في الواقع (عبر موافقتهم على القرار 242) ضوءاً أخضر للتفاوض الدبلوماسي لإعادة المناطق المحتلة من خلال طرف ثالث). ويضيف فودة قائلا: (ولكن حتى لو انطلقنا من الافتراض بأن قرارات الخرطوم تعبر فعلا عن موقف رفضوي عربي تجاه إسرائيل، فإن الإدعاء الإسرائيلي المستمر بأن الطرف العربي لم يغير موقفه الأساسي بينما تنشد إسرائيل السلام، لا ينجح في اختبار التاريخ ... فخلال الـ35 سنة الأخيرة رفضت إسرائيل حوالى عشر مبادرات وخطط سلمية وعربية. أما هي فلم تطرح من جانبها مبادرة واحدة حقيقية)! ويبقى السؤال: كيف ذلك؟
يأتي الجواب بتعداد الرفض الرسمي و/أو الفعلي للمبادرات التالية:
(1) مشروع روجرز في ديسمبر 1969 الذي قبل به الرئيس المصري المرحوم جمال عبد الناصر قبولا تكتيكيا على الأرجح مع تأكيد البعض أن القبول كان استراتيجيا.
(2) وبعد وفاة الزعيم عبد الناصر، انبرى الرئيس الجديد أنور السادات للإعلان غير المسبوق عن الاستعداد (غير المحدد الشروط) للاعتراف بالدولة العبرية وذلك في فبراير من عام 1971· غير أن حكومة غولدا مائير (السيدة الفولاذية) (التي ثبت إأها سيدة مهتزة في حرب أكتوبر 1973) اتخذت موقفا سلبيا من المبادرة الساداتية المبكرة! هذا في السبعينيات! فماذا عن الثمانينيات؟·
(3) في الحقبة الثمانينية، تم طرح أكثر من خطة لكنها -جميعا- تم رفضها إسرائيليا! فبدءاً من خطة الملك فهد في أغسطس (1980)، مرورا بخطة الرئيس الأميركي رونالد ريغان في سبتمبر من عام 1982 وانتهاء بخطتي السلام: (أ) العربية (خطة الملك فهد) المعلنة من قبل (القمة العربية) في المغرب في سبتمبر من عام 1982· (ب) الأميركية (خطة شولتز-وزير الخارجية) في مارس من عام 1988·
(4) وبعد التطورات الدراماتيكية المعروفة منذ قرار المجلس الوطني الفلسطيني بإعلان الاستقلال في نهاية عام 1988 متواكبا -طبعا- مع الموافقة على القرارين (242) و(338) تهربت الحكومة الإسرائيلية بقيادة اسحق شامير من كل محاولات (التسوية) المنشودة (عربيا وفلسطينيا وذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي شامير إلى مدريد) وهو يرفص ويصيح (بالرفض، لكنه ذهب بقاطرة الضغط الأميركية التي قادها الرئيس بوش الأب مع وزير خارجيته الحازم جيمس بيكر.وجاء الدور لحقبة التسعينيات)!
(5) في هذه الحقبة، أفضت المباحثات السرية في أوسلو إلى ما عرف لاحقا باسم (اتفاق المبادئ) بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ومع أن اسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي (الذي اغتيل في عام 1995 من قبل متطرف يهودي) اعتمد اتفاقات أوسلو ومضى في تنفيذها على نحو متفاوت، فإنه -أي رابين- رحل بعيد تفويته لفرصة عقد اتفاقية سلام مع الجمهورية العربية السورية. وبصعود الليكودي نتنياهو (على الجثة السياسية لشمعون بيريز) إلى سدة الحكم، ثم ركوب (الليكودي العقل والقلب) زعيم حزب العمل أيهود باراك على سرج حصان السلطة الإسرائيلية. ثم بوقوف ارئيل شارون على القبر السياسي لباراك في مطلع عام 2001، جاء إلى قمة الحكم أولئك الذين رفضوا اتفاق أوسلو واعتبروه (كارثة لإسرائيل)، وذلك مباشرة بعد رحلة الدم الباراكية ضد الشعب الفلسطيني وبالتالي اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الثانية في28/9/2000! ومع سقوط باراك في انتخابات يناير من عام 2000، تكرس التصعيد الإسرائيلي الرافض لأي تسوية برفض حكومة شارون لخطة السلام السعودية (التي أقرتها القمة العربية في بيروت) في مارس من عام 2002· ثم جرى (الرفض الفعلي) لما أصبح يعرف باسم (خريطة الطريق) التي تبنتها اللجنة الرباعية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الدولة الاتحادية الروس