مما لا شك فيه أن التغيرات الكبرى التي حدثت في العالم، وخصوصا في العقود الأخيرة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، وانهيار النظام الثنائي القطبية، وبروز النظام أحادي القطبية، أدت إلى حركات هجرة واسعة المدي اختيارية أو قسرية، وانتقال للعمالة من قطر لآخر، بل من قارة إلى أخرى، وسواء كانت شرعية أو غير شرعية، وتفتت المجتمعات، وانقسام الدول، وانفصال الأقليات، والمطالبات المتزايدة بالاعتراف بالحقوق الثقافية، والمعارك الضارية للدفاع عن الهوية· كل هذه العمليات المعقدة، كانت وراء اهتزاز المفهوم التقليدي للمواطنة، وبروز الحاجة إلى صياغات جديدة لهذا المفهوم القديم·
ومن هنا نجد انتقادات عّدة توجه للمفهوم القديم للمواطنة على أساس مستقبل التعددية الثقافية سواء في إطار المجتمع نفسه، أو عبر المجتمعات المختلفة· والسؤال هنا: كيف تتكيف المواطنة مع الواقع المتغير للمجتمع الحديث، أو بمعنى أدق المجتمع ما بعد الحديث، حيث يسود التشظي الاجتماعي والثقافى، ويتآكل الإجماع حول نسق القيم القديمة؟ في محاولة للإجابة على هذه الأسئلة المهمة وغيرها نشرت كتابي (المواطنة في زمن العولمة) (المركز القبطي للدراسات الاجتماعية)، القاهرة، 2002، والذي كان في الواقع محاولة أولى للاقتراب من هذا الموضوع، ولهذا قررت في مقدمة الكتاب أنه (مجرد مقدمة لموضوع المواطنة، تحتاج إلى تعميق وتأصيل أكثر أقوم به أو يقوم به غيري من الباحثين)·
وها قد أتيحت أمامي الفرصة اليوم -بمناسبة عرضي للمشكلات التي تستحق أن تدرج على جدول أعمال حوار الثقافات- لكي أتعمق في بحث الموضوع، وألم إلماما دقيقا بمختلف المشكلات النظرية والمنهجية والعملية التي يثيرها، من خلال مسح دقيق للأبحاث العالمية التي تطرقت لإشكالية المواطنة والعولمة·
للمواطنة في ضوء الأبحاث الحديثة أبعاد متعددة· فهناك أولا الدلالات الجديدة للمواطنة والتي شجعت على بروزها التغيرات العالمية الكبرى في العقود الأخيرة· وهناك ثانيا الأبعاد الثقافية للمواطنة، ومن ناحية أخرى هناك حديث عن المواطنة باعتبارها عملية مستمرة ذات أفق مفتوح· ولابد من إلقاء الضوء على تأثير العولمة على المواطنة· وأخيرا تجدر الإشارة إلى المواطنة والنظام العالمي·
ونتناول فيما يلي هذه الأبعاد بإيجاز لأن المقام لا يتسع للتفصيل· ما الذي تعنيه المواطنة؟
للمواطنة دلالات تتجاوز التعريفات القانونية لها· وذلك لأنه ازدادت أهميتها ونحن في خضم عمليات التغير الكبرى التي سبق أن ألمحنا إليها· وقد سبق للباحث المعروف (نوربرتو بوبيو) أن قرر (نقطة البداية في أن المواطنة هي محاولة الناس العاديين فرض النظام على الفوضى)!· وليس هناك نهاية في الأفق يمكن تحديدها في مجال تطوير معاني المواطنة ومجالاتها· فالبحث فيها عملية مستمرة، ومع ذلك يمكن القول إن ماضي مفهوم المواطنة يؤثر على الطريقة التي ينظر بها أغلب الناس في المجتمعات الصناعية المتقدمة إليها· (فالمواطن) الحديث هو في الحقيقة نتاج قرون من عملية (بناء الأمة) التي تضمنت معارك مستمرة في مجال تحديد الانتماءات السياسية، وحول القواعد التي ينبغي أن تحكم ممارسة السلطة السياسية داخل أطر إقليمية محددة· ولعل هذا الذي دفع ببعض الباحثين إلى التأكيد على أن المواطنة عادة ما تعرف بالاستناد إلى القومية·
فالمواطنون هم أعضاء منظمون في مجتمعات قومية، يعطونها ولاءهم ويتوقعون منها حمايتهم· وهي بالتالي هويتهم التي يتعاملون بها مع مواطنين من أقطار أخرى·
ويمكن القول بالتالي إن الإحساس بالتضامن المرتبط بالمواطنة يقوم على أساس رسم الحد الفاصل (بيننا) و(بينهم)، أو بعبارة أخرى بين (الأنا) و(الآخر) غير أن الإحساس له مردود سلبي كما يؤكد (جدنجز) الذي ينتقد الإحساس المفرط بالوطنية الذي استغلته نظم شمولية لتحقيق أهداف قومية ضيقة، وعلى حساب الشعوب الأخرى· فالمواطنون عليهم التزامات إزاء دولهم قد تصل لحد التضحية بالحياة، ويكفي أن نتذكر الحروب الأخيرة لكي ندرك الجانب المرضي للالتزامات الوطنية المتطرفة لو أسيء استخدامها·
الأبعاد الثقافية للمواطنة: هناك أبعاد ثقافية للمواطنة· لعل أهمها على الإطلاق الدفع بحجة الخصوصية الثقافية للهروب من تطبيق القواعد العالمية لحقوق الإنسان، كما تفعل ذلك بعض الدول ذات النظم السياسية الشمولية أو التسلطية· غير أن هذا لا يمنع أن المجتمعات المعاصرة لها خصوصيتها الثقافية التي قد تتعارض أحيانا مع بعض القواعد التي يطلق عليها أحيانا تعسفا قواعد عالمية· وهذا قد يؤدي في التطبيق إلى أن تكون معاني ودلالات المواطنة تختلف من بلد لآخر·
وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى الجدل الدائر في بعض البلاد الإسلامية حول حقوق الإنسان بين العالمية والخصوصية· وجوهر الجدل هنا هو أن للإسلام نظرية خاصة في حقوق الإنسان· وهي إن كانت تتفق عموما مع المواثيق العالمية إلا أنها تتميز عنها وقد تختلف عنها في بعض المواضع·
والجدل نفسه يدور في بعض الدول الآسيوية حيث ي