يثير المشهد العراقي الراهن خوفاً وقلقاً كثيرين من العرب لما ينطوي عليه من تفتت وتبعثر طائفي وديني وعرقي وقومي وعشائري، ولما يحدث فيه من صدامات بين جماعات اجتماعية مختلفة من وقت إلى آخر· ولذلك فالسؤال الذي يتكرر في كثير من المناقشات والحوارات في مجالس عربية متنوعة هو: هل يمكن بناء نظام عراقي جديد في ظل هذا التفتت الشديد، وكيف؟ إنه سؤال التكامل الاجتماعي أو الوطني Social or National Integration· وهو يثار، عادة، في المجتمعات التي تعرف تنوعاً وتعدداً في الانتماءات، ويثير -معه- قضية المواطنة التي تمثل حجر الأساس في تحقيق ذلك التكامل·
فإذا أمكن إرساء مبدأ المواطنة على أسس راسخة، يمكن تحويل المخاطر المحتملة للتفتت والتبعثر إلى مكاسب أكيدة من جراء انتفاع المجتمع بإيجابيات التفاعل بين مكونات متنوعة لكل منها ما يقدمه· فالتنوع يثري المجتمع، وهذا هو ما تهدف إليه سياسات التكامل التي تعتبر ضرورية سواء كان المجتمع موحداً أو شبه موحد في تكوينه أو كان متنوعاً متعدداً بدرجات مختلفة في العمق والمدى·
فمن طبائع الأمور أن تكون للإنسان، أي إنسان، انتماءات متعددة· ينطبق هذا على كل بلد من بلاد العالم· وترتبط هذه الانتماءات بالمكان الصغير الذي يولد فيه الإنسان والمنطقة التي يعيش فيها والدين الذي يعتنقه واللغة التي يتحدثها· وقد يولد الإنسان أيضاً في عائلة كبيرة ممتدة أو عشيرة متماسكة ينتمي إليها أيضاً·
والإنسان، فوق هذا كله، ينتمي إلى وطن·و المفترض أن يكون هذا الانتماء الوطني جامعاً لمختلف الانتماءات وليس متجاوزاً لها بخلاف ما يعتقده البعض· فالانتماء الوطني -من حيث هو انتماء- لا يتجاوز الانتماءات الأخرى، بل يشملها أو يتضمنها· التجاوز يحدث في العلاقات والتفاعلات التي تقوم على أساس الانتماء الوطني· وبمقدار عمق الانتماء الوطني وتطور هياكل المجتمع، تنحو العلاقات والتفاعلات لأن تشمل مواطنين من أديان وأعراق وأقاليم وعائلات متباينة· فالانتماء الوطني لا يلغي إيمان الإنسان بدينه وعقيدته أو اعتزازه بمنطقة في وطنه نشأ فيها وبعائلة أو عشيرة يفخر بالانتساب إليها، وبلغة يحبها في البلاد التي تعرف تعدداً لغوياً، وما إلى ذلك· فالانتماء الوطني هو فوق هذه الانتماءات، بمعنى أنه يجمعها كلها في إطار واسع، من خلال رابطة أكبر وأعم وأشمل تجمع كل أبناء الوطن بكل انتماءاتهم هذه، وهي رابطة المواطنة· فهي رابطة أكبر وأعم لأنها تخلق علاقات وتفاعلات على أوسع نطاق تتكامل من خلالها عناصر ومكونات المجتمع· ولذلك نقول إن هذه عملية تكامل اجتماعي أو وطني·
وهذه العملية لا تحدث تلقائياً بحيث يتطور المجتمع في اتجاه التكامل بشكل طبيعي إلا فيما قل·ففي معظم الأحوال يحتاج تحقيق التكامل إلى فعل قصدي من خلال سياسات عامة إما لتشجيعه والحفز عليه أو لمواجهة مشكلات أو صعوبات تعوقه أو تحول دون اكتماله· ويتوقف الأمر على مدى قوة العوامل التي تساعد في عملية التكامل، وتلك التي لا تساعد أو تعوق هذه العملية·
والاعتقاد الشائع هو أنه كلما كان المجتمع أكثر تقدماً ازدادت العوامل المساعدة على تحقيق التكامل وقلت العوامل المعوقة له· ويقصد بالتقدم هنا تحقيق درجة كبيرة من التنمية في المجالات الأساسية وخصوصاً الاقتصاد (ارتفاع مؤشرات الأداء ومستوى الحياة)، والسياسة (ارتفاع مستوى المشاركة)، والعلم (بناء قاعدة علمية وتكنولوجية بشكل عام ودخول عصر الثورة الصناعية الثالثة أو الموجة الثالثة بشكل خاص)· ولكن هذا الاعتقاد لا يعبر عن الواقع· فهناك مجتمعات تعتبر من بين الأكثر تقدماً في العالم واجهت عملية التكامل فيها صعوبات على مدى فترة طويلة من الزمن· ويعتبر المجتمع الأميركي مثالاً واضحاً لهذا النوع من المجتمعات المتقدمة التي واجهت صعوبات كبيرة في تحقيق التكامل· وبرغم أنه أصبح أكثر تكاملاً الآن مما كان عليه من قبل، لم تصل عملية التكامل فيه إلى نهايتها·
وهناك، في المقابل، مجتمعات أقل تقدماً حققت عملية التكامل فيها نجاحاً كبيراً مثل ماليزيا· والمهم هنا أن هذا النجاح حدث قبل أن تحقق ماليزيا انجازها الاقتصادي الكبير الذي جعلها أحد النمور الآسيوية· فقد حققت تكاملاً مشهوداً بين أعراقها الثلاثة وهي المالاويون والصينيون والهنود، وأديانها وهي الإسلام والبوذية والتاوية والهندوسية والمسيحية· وقد أخذنا هاتين الحالتين لأن المجتمع في كل منهما يعتبر من أكثر المجتمعات تنوعاً في العالم· إنهما من الحالات التي اقترن تحقيق التكامل فيها بإدراك هذا التنوع العرقي والديني والاعتراف به والسعي إلى مواجهة المشكلات المترتبة عليه، بخلاف ما حدث في حالات أخرى شهدت محاولات تحقيق تكامل قسري بالقوة أو شكلي من خلال التحايل على هذه المشكلات وليس حلها·
والملاحظ أن هناك تفاوتاً في مدى نجاح السياسات العامة الهادفة إلى تحقيق التكامل في انجاز هذا الهدف· ويتوقف ذلك على مدى ما تحققه هذه السياسات على صعيد توفير الشروط اللازمة للتكامل· ولأن هذا التكامل يحدث بين