برغم أن السودانيين يقدرون تقديراً طيباً دور الإدارة الأميركية ورعايتها الشاملة لـ(عملية سلام السودان) التي تبناها الرئيس بوش، وبرغم علمهم بـ(الجهود) الأميركية العالية المستوى والمبذولة مع الطرفين المتفاوضين في (نيفاشا) من أجل الوصول إلى اتفاق سلام ينهي الحرب ويفتح الطريق لاستقرار السودان وتقدمه وتنميته، إلا أن المراقب يمكن أن يلحظ بيسر أن ثمة (قلقاً) وأحياناً (خوفاً) وشكوكاً مكتومة ومعلنة حول المستقبل، وخاصة ما بعد توقيع اتفاق السلام المرتقب، وحول الدور الذي يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة من أجل أن تصل (العملية السلمية) إلى نهايتها السعيدة التي يرجوها ويأمل فيها الشعب السوداني، وأن تفضي العملية السلمية وكل ما صحبها وسيصحبها من اتفاقات وإجراءات وقوانين دستورية وتقاسم للثروة والسلطة، وإزالة المظالم التاريخية وتحقيق وتسريع التنمية العادلة بل الأعدل بالنسبة للجنوب السوداني··· إلخ··· إلخ أن تفضي العملية إلى تثبيت واستعادة وحدة الوطن السوداني الاختيارية والطوعية·
القلق والخوف والشكوك المبررة وغير المبررة يلحظها المرء في كثير من تعليقات الصحف ومناقشات وحوارات الندوات السياسية -التي تكاد تعقد بشكل يومي في الخرطوم- وفي مجالس (الونسة) السودانية العامرة والحافلة والتي تشكل السياسة مادتها الأساسية· فالناس العاديون في الخرطوم يعتقدون أن الإدارة الأميركية بما بذلته وتبذله من جهد بالوصول إلى (اتفاق سلام في السودان)، أصبحت تملك ليس تسعين في المئة من أوراق اللعبة، ولكنها أصبحت تملك بالفعل مئة في المئة من أوراق اللعبة· ومن هنا جاء مبعث قلقهم وخوفهم وشكوكهم لأنهم لا يعلمون إن كانت الإدارة الأميركية تشاركهم الرجاء والحلم والأمل بأن تنتهي كل العملية السلمية إلى النهاية السعيدة المرجوة·
الزميل رئيس تحرير جريدة (الرأي العام) السودانية حمل هذه المخاوف والشكوك إلى السفير جيرالد كالوش القائم بالأعمال الأميركي في الخرطوم وسأله عن الضمانات التي يمكن أن تتوفر لإزالة هذه الشكوك في ظل الواقع الذي يحيط به كثير من الغموض حول مستقبل قضية الوحدة؟ وكيف يمكن للولايات المتحدة وهي الدولة العظمى التي ترعى السلام أن تعمل على إزالة هذه الشكوك حفاظاً على مستقبل السودان ووحدته؟·
ولأن السيد كالوش دبلوماسي وسياسي متمرس فقد أجاب -وأنا أنقل النص الحرفي لإجابته-: (لا توجد ضمانات ولا يمكن وجودها لأن المستقبل لم يكتب بعد وهو ما يزال في رحم الغيب ولا يستطيع أحد أن يرجم بالغيب وما يحمله المستقبل· ولكن إذا ما أصاب كل من الشمال والجنوب شيئاً من النجاح كان ذلك أفضل ضمان للوحدة)·
وكان الدبلوماسي الأميركي قد قال للزميل خلال الحوار الممتع الذي أداره إنه لا يرى أية امكانية لأهل الجنوب أن يكونوا في وضع أفضل إذا ما انفصلوا عن الشمال وإن الجنوب يمكن أن يفرض وجوده ضمن المنظومة الاقتصادية والسياسية السودانية· ويرى أن الاحتمال الوحيد لتوجه الجنوبيين نحو خيار الانفصال يكمن في فشل مشروعات بناء الجنوب· فإذا حدث ذلك سيسعى السياسيون الجنوبيون إلى دخول عملية الاستفتاء وتقرير المصير تحت شعار الانفصال متذرعين بحجة فشل جهود السلام·
هناك كثير من الحق فيما قاله الدبلوماسي الأميركي البارع· فالضمانة الحقيقية في اجتياز السودانيين لامتحان الوحدة المقرر عليهم تكمن في سلوكهم السياسي والأخلاقي خلال فترة الانتقال الصعبة وفي تنفيذ ما التزم به السياسيون في الجنوب والشمال من تنمية وتطوير ورد للمظالم وحرص على الديمقراطية ورعاية الحقوق الإنسانية لكل المواطنين، وهذا جهد لا يمكن أن تقوم به نيابة عنهم الإدارة الأميركية أو غيرها من الدول الأجنبية·