في يونيو عام 2002، أبلغ الرئيس بوش الأمة بأن الخطر الأكبر على الأمن الأميركي يكمن في إمكانية حصول الارهابيين على الأسلحة غير التقليدية. ومن المنطقي إذاً أن تُجرى إعادة تقييم للتحقق مما إذا كانت استراتيجية الأمن القومي تفعل كل ما في وسعها لإبعاد تلك الأسلحة عن أيدي الإرهابيين. تلك بداية طيبة، فالولايات المتحدة صار لديها الآن سياسات نووية خاصة بها.
في ربيع عام 2002، وقّع الرئيسان بوش وبوتين على معاهدة موسكو التي تضع أسساً لعملية تهدف إلى تقليص الدولتين لمخزونات الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية القابلة للنشر الفوري، ليصل عددها في كل من الدولتين إلى مابين 1700 و2200 رأس بحلول نهاية عام 2012، وقد انسجم ذلك مع السياسة السابقة، كما انعكست في معاهدة (ستارت 2) ، حيث تقلص في الدولتين عدد الرؤوس الحربية الاستراتيجية إلى ما بين 3000 و 3500 رأس. أما وجه الاختلاف في سياسة بوش فيتجلى في الإيقاع البطيء لعملية الاستغناء عن تلك الأسلحة، إذ أن معاهدة موسكو لا تقتضي تدمير أية رؤوس حربية قبل مرور عشر سنوات من وقت التوقيع، وهي تشترط فقط أن يحتفظ كل من الجانبين بما بين 1700 و2200 رأس نووي فقط من الرؤوس القابلة للنشر الفوري.
لكن ما يعنيه ذلك ليس واضحاً للجمهور. فالولايات المتحدة أشارت إلى أنها لن تدمر أياً من الرؤوس الحربية تلك، التي يتجاوز عددها الحد المسموح بمقدار يتراوح ما بين 4000 و5000 رأس، لا بل إنها تعتزم الاحتفاظ ببعضها في حالة معينة تتيح لها أن تزعم إنها غير قابلة للنشر الفوري. ولذا تجسد الناتج الصافي من المعاهدة ومن الخطط الأميركية المعنية في قول مفاده إن أميركا تعلّق أهمية كبيرة على الاحتفاظ بحرّية استخدام 6000 إلى 7000 رأس نووي استراتيجي ليكون ذلك سياجاً يحميها مما ليس متوقعاً.
وهناك تغير آخر طرأ على السياسة الأميركية النووية، وتجلى في لجوء إدارة بوش إلى الكونغرس لتحصل على تصريح بإجراء أبحاث لإنتاج رؤوس حربية تكتيكية جديدة أقل قوة الغاية منها في المقام الأول أن تكون (أدوات تدمير) للتحصينات والأهداف القوية والمدفونة تحت الأرض. ويشير هذا أيضاً إلى الأهمية التي تعلّقها الولايات المتحدة على امتلاك أسلحة نووية قابلة للاستخدام.
أما المسألة التي لا تجد بلادنا أميركا مهرباً من مواجهتها فهي أن هذين الاتجاهين ينسجمان مع عملية تقليص التهديد الرئيسي الذي يشكله انتشار الأسلحة النووية ووصولها إلى الإرهابيين. ويبدو جلياً هنا أن إصرار أميركا صاحبة أقوى جيش في العالم على امتلاك الكثير من الأسلحة النووية يعني أن هذه الأسلحة تعود بنفع أكبر على القوى العظمى الأخرى التي تمتلك من القوات التقليدية عدداً أقل مما لدى أميركا. وهكذا قامت أميركا بتقليص قوتها النووية لكي تضمن تعاون الأمم الأخرى معها في كثير من الممارسات الضرورية لمنع المزيد من الانتشار النووي.
فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تقنع العالم بأن العراقيين والكوريين الشماليين لا ينبغي لهما أن امتلاك سلاح نووي واحد وهي نفسها تحتاج إلى 7000 رأس نووي؟ لذلك تبدو الولايات المتحدة منافقة، وهي ليست في موقف سليم يؤهلها لقيادة العالم في حملتها التي تشنها ضد الانتشار النووي.
والصحيح أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى (أدوات التدمير) التكتيكية تلك، باعتبار أنها تمتلك القوات العسكرية التقليدية الأكثر تفوقاً في العالم والتي تجعلها قادرة على اكتساح أي بلد، بما في ذلك كوريا الشمالية وبغض النظر عن مخابئ القيادة الكورية المحصنة تحت الأرض. ومن الجدير ذكره هنا أن صدّام اختبأ في (حفرة جرذ) وليس في مخبأ محصن منيع على الاختراق، ثم إننا لم نسمع من الإدارة ولا حتى كلمة واحدة حول تلك المخابئ المحصنة في بغداد والتي كان من المفترض أنها من أقوى وأفضل المخابئ في العالم كله.
إن الولايات المتحدة قادرة دوماً على قطع إمدادات الماء والكهرباء والاتصالات عن المخابئ المحصنة، بل وتستطيع دوماً قطع الطرق الفعلية المؤدية إليها باستخدام الأسلحة التقليدية. ذلك لأن معظم المخابئ موجودة في المدن، ولن تقوم الولايات المتحدة بإطلاق سلاح نووي حتى لو كان (صغيراً) على منطقة مأهولة بالبشر لكي تقوم فقط بتدمير مخبأ! وللعلم فإن كل واحد من تلك الأسلحة التدميرية التكتيكية الصغيرة يتمتع بقوة تعادل قوة 10 ملايين طن من مادة (تي إن تي)، ولا تنسوا أيضاً أنها أسلحة تطلق الإشعاعات النووية.
وتقتضي معاهدة موسكو أن تقوم الولايات المتحدة بإزالة الرؤوس النووية الجاهزة عملياتياً عن الصواريخ ومن القاذفات ثم تخزينها في أماكن بعيدة. ومن شأن ذلك أن يعني وجود مراقبين دوليين للإبلاغ عن إعادة أي من تلك الرؤوس إلى مركبات النقل إلى الصواريخ. ومن المؤكد أن إدارة بوش تقوم بالتخطيط لتنفيذ شيء أقرب إلى صك التنفيذ الاستراتيجي هذا ليكون طريقة للاحتفاظ برؤوس حربية يتراوح عددها ما بين 4000 و 5000 رأس، وهو مقدار الزيادة فوق الحد الذي تسمح به الاتفاقية المذكورة.
وستكون الولايا