تدور هنا وهناك في العالم العربي حوارات ومناظرات، وتعقد ندوات ومؤتمرات حول واحدة من أهم وأخطر الفئات الاجتماعية في المجتمعات العربية (وغيرها)، وهي فئة الشباب· أما أهميتها وخطورتها فتأتيان من أن الشباب -إناثاً وذكوراً- يمثلون حالة من التقاطع بين كل طبقات وفئات وشرائح ووحدات تلك المجتمعات· فهم موجودون في أوساط الفقراء والأغنياء والنساء والرجال والأطفال، والريفيين والمدنيين، والمتعلمين والجاهلين، وغيرهم· أما ثاني خصوصية يتسم بها الشباب فتتحدد في أنهم يمثلون مرحلة انتقالية معقدة وشائكة من اليفاعة إلى الرجولة· ولذلك، يعتبرون حالة متحركة مفتوحة، مما ينطوي على إمكانية التحول في أوساطهم من موقع إلى آخر، على صعيد الثقافة والتعلم والقيم والمثل العليا السياسية والجمالية والأخلاقية والعاطفية·
وقد تنبهت إلى ذلك مجموعات من الباحثين، خصوصاً في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، وكذلك مجموعات من السياسيين ومن صانعي السياسات الشبابية في أحزاب وحكومات ومنظمات معينة· ذلك لأنهم يدركون أهمية هذا من أجل كسب الشباب لبرامجهم وخططهم من حيث هم شباب أولاً، ومن حيث هم مرحلة انتقالية إلى ما بعد الشباب، أي الرجال الذين يمسكون بمقدرات المجتمع ثانياً، مع الإشارة إلى أن الكثير من الشباب ينخرطون في حقول المهن أثناء دراستهم·
من هنا، كان الأمر جدياً على صعيد تربية الشباب والعمل معهم· وحين يواجه هؤلاء إهمالاً أو إجحافاً أو إقصاء أو ظلماً من قبل الكبار (وخصوصاً منهم أصحاب القرار الاقتصادي والسياسي والتربوي)، فإنهم قد يقومون بما لا يرضى به هؤلاء· فعدم احترام الشباب في حاجاتهم إلى العمل والتعلم والصحة والكرامة، هو بمثابة تعبئتهم ضد "الكبار" المتمثلين في مؤسسات اقتصادية وتعليمية وصحية وثقافية· ويمكن أن يلجأوا في مثل هذه الأحوال إلى ما يسميه الكبار "انحرافاً" أو "إرهاباً" أو "تحدياً للقيم"· وحينئذ يوجه هؤلاء التهم إلى أولئك، بل يصوغون قرارات سياسية واقتصادية وتربوية لردعهم· والأمر يصبح بالنسبة إلى >الكبار< أكثر خطورة، حين يلجأ الشباب للانضمام إلى منظمات يرون عندها الحماية والرعاية، حتى لو كانت هذه المنظمات ذات طابع ظلامي، فعلاً·
هذه المسألة الشبابية تجد تجسداً خطيراً في العالم العربي· فالشباب في هذا العالم يفتقدون -في عمومهم وإجمالهم- الكفاية المادية والحرية والكرامة· ذلك لأن النخب الحاكمة، ها هنا، تستفرد بالسلطة والثروة ومنابر الإعلام والثقافة، مما يدفع الشباب دفعاً باتجاهين اثنين كبيرين: السماءِ ممثلة بمنظمات تعلن أنها الطريق إليها، وأبواب السفارات الأجنبية التي تقود إلى "عالم الرفاه"· وقد قامت مجموعة من الدراسات الاجتماعية بالبحث عن حضور الشباب في مثل تلك المنظمات، فأظهرت إحدى نتائج البحث أن الحضور الشبابي في منظمة "التكفير والهجرة" -مثلاً- يصل إلى نسبة 55% من مجموع الحضور فيها بمصر· فلقد قيدت خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها إلى إخفاقات متتالية، كان من نتائجها ومقتضياتها أن تكدست ثروة الوطن في جيوب من لم ينتجها، بل -وهذه ثالثة الأثافي- في بنوك العالم تثمر لصالح مجموعات أجنبية غالباً ما تكون معادية للشباب العرب وللعرب عموماً·
إن "الشباب العرب" يمثلون معضلة خطيرة ومفتوحة على احتمالات متعددة، منها التحول إلى قوة تدميرية، إذا ما أرغم هؤلاء على العيش على حدّ السيف: أذلاء مهمشين محرومين، ومطالبين -في الآن نفسه- بأعباء الدفاع عن الوطن في جيوش قلما تهتم بشؤون هذا الدفاع· وإذا وضعنا في الاعتبار -من طرف آخر- أن نسبة الشباب في المجتمع العربي عالية بنحو ملحوظ بالقياس إلى الفئات الأخرى، فإننا سنلاحظ أن العناصر المكونة لحيوية هذا المجتمع محاصرة من قبل الفئات والطبقات الماسكة بيدها مصادر الثروة والسلطة والمنابر الثقافية التحفيزية، أي الفئات والطبقات التي تمثل -باعتبار سيوسيولوجي وتربوي- شيخوخة المجتمع المذكور·
في ضوء تلك الوضعية - المعضلة المفتوحة، يمكن الوصول إلى معادلة أولية قد تلخص ما نحن هنا في معرض البحث فيه، تلك هي التالية: جدلية الشيخوخة والشباب، أي الشيخوخة المتنفذة في طاقاتها لتجديد شباب المجتمع، والشباب المحاصر باتجاه سقوطه شائخاً!