قبل سنوات دعا كاتب سعودي معروف إلى تأسيس تخصص دراسي في إدارة واقتصاديات الحج بجامعة الملك عبد العزيز بجدة· كل عام وانتم بخير، لقد مضى حج هذا العام وأعوام أخرى ولم يتحقق هذا الاقتراح الذكي رغم منطقيته، فالحج والعمرة أصبحا عملاً دائماً ودؤوباً لا ينقطع طوال العام، ومصدراً مهماً لاقتصاديات مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، ينشغل فيه الآلاف من موظفي الحكومة والقطاع الخاص·
لا ينكر أحد عملية التطور المستمرة في إدارة الحج، ولكنها عملية لن تنتهي بحكم تراكم التجربة وتطور التقنيات، لذلك من المفيد الاستفادة من تجارب الآخرين في إدارة التجمعات· فكرت في ذلك على هامش منتدى دافوس الذي حضرته قبل أسبوعين، ووقفت مذهولا أمام حرص المنظمين في استخدام، بل بالأحرى استعراض أحدث تطبيقات تقنيات الاتصال في إدارة مؤتمر يحضره 2000 من قيادات العالم السياسية والاقتصادية والفكرية ومعهم آلاف أخرى من الصحفيين والمرافقين، مع الحرص على أقصى درجات الأمن والخصوصية·
ذهب بي الخيال بعيدا إلى مكة المكرمة ومنى وعرفات، وأنا أحمل في يدي جهاز الاتصال الشخصي (أي باك) الذي وزعته "هليويت اند بكرد" على المشاركين بينما كان الثلج يتساقط في الخارج· أخذت استعرض الجهاز الصغير في راحة يدي، حيث أتلقى آخر أخبار المنتدى لاسلكيا، أو أختار جلسة من بين أكثر من 250 جلسة تعقد خلال أيام المنتدى الستة· عندما أريد أن أتعرف أكثر على أحد المتحدثين أضغط بطرف قلم صغير على اسمه لتفتح لي صفحة تتضمن صورته ومعلومات واسعة عنه· لو أردت أن أرسل له رسالة بالبريد الإلكتروني أؤشر على عنوانه البريدي المرفق ثم أكتب له ما أشاء· ناهيك عن الخرائط المرشدة إلى قاعات المحاضرات أو الطرق المؤدية إلى فنادق المنتجع الشتوي التي توزع فيها المشاركون·
رفعت عيني إلى شاشة إلكترونية تبث منها أخبار المنتدى ومواعيد المحاضرات والجلسات· وفي كل ركن من أركان قاعة المؤتمر، أو في فنادق المدينة، أجهزة كمبيوتر بمثابة نقطة اتصال، تدخلها بمسح بطاقتك الشخصية التي تحمل صورتك واسمك على مستشعر، ناهيك عما اتفق على تسميته بـ"الهوت سبوت" وهي تقنية ستكتسح العالم لتوفير شبكات اتصال بالإنترنت لاسلكية تجعل الحياة تتدفق إلى جهازك المحمول في كل مقهى أو قاعة انتظار تتوفر فيها الخدمة·
هل نحتاج إلى كل هذا في حج العام القادم؟ بالطبع، فالعاملون في خدمة الحجيج والطوافة ينظرون إلى الهاتف الجوال كنعمة حلت عليهم· إن هذه الخدمات المتطورة لن يحتاجها بالطبع الحجيج المنصرف إلى ربه وعبادته وإنما الآلاف من رجال الآمن والخدمات الطبية والتموينية والمشرفين على الحملات·
الخبر الجيد أن حظنا من الاهتمام بهذه الصرعات التقنية لا يقل عما هو في الغرب وذلك بشهادة أحد مؤسسي ومديري موقع البحث الأشهر في الإنترنت "جوجل"، والذي سمعت منه إعجابا بجيل متعلم من السعوديين والسعوديات التقاهم في منتدى جدة الاقتصادي والذي آتى منه إلى دافوس· ويبدوا أننا تركنا أثراً طيباً في نفسه وعقله فاختار حضور عشاء المملكة في أحد ليالي دافوس من بين أكثر من 15 دعوة عشاء متاحة· وقال إن أكثر ما لفت انتباهه في جدة هو معرفة واستخدام وتطوير التقنيات الحديثة من السعوديين، ما يجعل المملكة مؤهلة للمشاركة في عمليات الربط التقني التي ستجمع العالم كله تدريجيا وبشكل أكبر مما هو معمول به حاليا·
أتمنى أن يقرأ هذا الذين ضاقوا بمنتدى جدة الاقتصادي وحضوره من سادة وسيدات أفاضل، ليعلموا أن مزيداً من ثورات الاتصال تنتظرنا لتجعلنا في قلب العالم، ولن يمنعها قرارات عابثة من خارج التاريخ تحرم كاميرات الجوال أو مفكرات في حجم راحة اليد تحملني من مكاني إلى كل العالم·
جرعة مزيدة من التفاؤل لقيتها في ليلة تالية بدافوس، جلست استمع إلى حوار "أصدقاء" بين عدد من الجيل الجديد من القادة الخليجيين الذين تجتذبهم دافوس وروحها التقدمية، وجدت جل حديثهم منصرفا إلى التنمية والتعليم والوظائف، مع مزيد من الديمقراطية والمشاركة الشعبية· إنهم منشغلون أكثر بالبحث عن حياة أفضل لشعوبهم، واعتقد أن هذا خبر جيد، فحتى للمؤمنين بأولوية تحرير فلسطين، فإن ذلك لن يتم إلا بشعوب قوية مطمئنة تنعم برخاء وسعادة· سمعت أفكاراً جيدة مثل ضرورة السعي إلى رفع مستوى الرواتب في المنطقة، حتى لا يخسر المواطن فرصة العمل للوافد المستعد بقبول براتب متواضع، وإلغاء نظام الكفالة الذي وصف بأنه يتعارض مع روح العصر واتفاقيات التجارة الحرة واستبداله بنظام رخص العمل التي توفرها الدولة ما يعني أن الدولة ستكون الكفيل للعمالة الأجنبية التي يقدر الخبراء حاجة الاقتصاد المحلي لها مع السماح للعامل بالانتقال الحر ومع احترام شروط عقد العمل مع الشركة التي يتعاقد معها· إنه نظام ثوري قد يبدو للوهلة الأولى أنه في مصلحة العامل الوافد، ولكن عند تأمله سنجده سيقضي على حالة الاتكال على عمالة أجنبية تجعل المواطن غير منتج، مع تراكم هذه العمالة وما سيؤدي إلى وفرتها ورخصها وبالتالي تكون سدا