يتنادى الناس في بلادنا العربية كلها بوجوب كفالة الحرية للصحافة وسائر وسائل الإعلام، باعتبارها من القيم الضرورية الضامنة للديمقراطية والشفافية، والحافظة لحقوق الإنسان، لا سيما حقه في معرفة خالية من التحيز، مبرأة من الهوى، لا تنحرف بالحقيقة فيها بغضاء مهلكة ولا محبة متلفة(!)
وكاتب هذه السطور -منذ وعى- يقف مع الحرية ضد الاستبداد ومع الحق في التعبير عن الرأي ضد القهر على الصمت، ومع واجب الصحافة، والإعلام، بوسائله كلها، في كشف الحقائق للرأي العام مهما تكن مرارتها. والضامن الحقيقي لحرية الصحافة والصحفيين هو الصدق في النقل، وهو لا يكون إلا بعد الاستيثاق الكامل والتحري الدقيق. فإذا خانت الصحفي هذه الخصلة، اللازمة لعمله، فقد من المكانة التي يستحقها عند القارئ، وعند الناس كافة، بمقدار ما يفتقد من القدرة على الاستيثاق والتحري، وبمقدار ما يبخل به من الجهد فيهما على نفسه وعلى صحيفته وعلى قارئه جميعا!
وفي ممارستي لمهنة المحاماة وقفت مدافعا عن عشرات الصحفيين الكبار ، والمبتدئين، وكان الشرط الوحيد الذي أتحقق منه بنفسي قبل أن أتحمل مسؤولية الدفاع عن أي منهم هو ذلك الصدق اللازم في الخبر، أو الجهد المبذول في التحري، بحيث إذا لم يصادف المنشور حقيقة الواقع لم يكن ذلك بسبب تقصير الصحفي في البحث عن الحقيقة أو شحه بوقته وجهده في محاولة الوقوف عليها من مصادرها المتاحة.
ويكمل واجب تحري الصدق ومحاولة التيقن من الحقيقة، قبل النشر، واجب الاستجابة، بلا تردد ولا جدال، لنشر التصويب أو التكذيب عندما يبلغ أمره إلى الصحفي المسؤول عن النشر الخاطئ. فإن أبى الصحفي ذلك أو تعلل بأعذار واهية لئلا يفعله، أو خاف أن يقال إنه كان مخطئا فيما نشره على الناس فآثر أن يبقيه ذائعا منشورا، وهو باطل، على أن ينشر التكذيب أو التصويب وهو حقيقة، أو نشره لكنه عقب عليه بما يفسد أثره عند القارئ ويوقعه في الحيرة والشك بدلا من أن ينقله من باطل الكذب إلى صدق الحق... إن فعل الصحفي ذلك، كله أو بعضه فإن الخطأ الأول -وهو بسيط- يتحول إلى خطيئة مركبة قد يحسبها بعض الناس هينة، وإثمها في الواقع، عند الله كبير. والوقوع في هذه الخطيئة يفقد الصحفي مصداقيته، والصحيفة، أو وسيلة الإعلام المعنية، احترامها عند الناس، وكفى بذلك ثمنا فادحا يدفعه الصحفي نفسه والصحيفة التي تستكتبه.
وقد كنت مستغنيا عن هذا الحديث كله، وهو من البديهيات عند المعنيين بالإعلام وشؤونه، المطلعين على قيمه وآدابه، الحريصين على حريته وصدقه، لولا أن ساقتني إليه واقعة لا أصل لها، نشرت في إحدى أعرق المجلات المصرية، بل العربية، دون تحر لصدقها أو بحث عن حقيقتها، ولم يكن أي من الأمرين يقتضي أكثر من مكالمة هاتفية يقوم بها الصحفي، كاتب الواقعة، لمن أتى على ذكرهما فيها، أو لأحدهما، ليتبين له فيها الرشد من الغي! ولكنه لم يفعل، ولم يكن راضيا عندما بلغه وجه الحق فيها -أو هكذا بدا لي من صوته عبر الهاتف- ولذلك وجدتني مضطرا إلى سوق هذا الحديث كله.
وقصة ذلك أن مجلة "المصور" القاهرية، وهي تصدر منذ ثمانين سنة (!) نشرت في عددها رقم 4136 الصادر في 16/1/2004 تقريرا صحفيا عن اختيار المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بعد وفاة المستشار مأمون الهضيبي إلى رحمة الله. وكتب هذا التقرير الصحفي الأستاذ حمدي رزق، وأردفه بحديث طويل أجراه مع المرشد الجديد الأستاذ محمد مهدي عاكف.
في التقرير الصحفي قال الأستاذ حمدي رزق ما نصه: >تولية عاكف تعد حسما للخلافات التي تسربت أخبارها من داخل مكتب الإرشاد والتي وصلت إلى حدود ترشيح الدكتور يوسف القرضاوي لقيادة الجماعة كحل وسط بين المتصارعين وبالفعل اتصل القيادي الإخواني السابق الدكتور سليم العوا بالدكتور القرضاوي في قطر طالبا منه خلافة المستشار المأمون الهضيبي لإصلاح حال الجماعة -على حد قول القيادي الإخواني- رفض الدكتور القرضاوي الاقتراح مؤكدا " أن مهمته إصلاح حال المسلمين أما الجماعة فلها من يصلح أحوالها"·
كنت عندما نشر هذا الكلام خارج البلاد في رحلة عمل ومراجعة طبية، ولا أزال وأنا أكتب هذه السطور بعيدا عن الوطن، ولذلك لم أطلع عليه إلا يوم السبت 24/1/2004 بعد أن لفت نظري إليه الصديق المهندس أبو العلا ماضي، فسارعت إلى إملاء خطاب وجهته إلى رئيس تحرير "المصور" ورئيس مجلس إدارة دار الهلال الأستاذ الكبير مكرم محمد أحمد، قلت له فيه، بعد أن ذكرت ما يعنيني من النص المنشور عن واقعة اتصالي بالأخ الجليل العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:
"وأود التأكيد على أن كل ما جاء في هذا التقرير منسوبا إلي أنني قلته أو فعلته لم يقع أصلا، ولا أساس له من الصحة. وأنا لم ألتق بالأستاذ حمدي رزق في ظرف وفاة الأستاذ الهضيبي واختيار خلف له. كما أن الوصف الذي أضفاه سيادته عليّ ليس له أصل لا في الماضي ولا في الحاضر".· ورجوته أن ينشر خطابي في أول عدد من المصور يصدر بعد وصوله إليه.
في يوم السبت نفسه، بعدما أرسلت مساعدتي الأستاذة أمل العشماوي ال