دون إعلان رسمي.. تقوم الولايات المتحدة حاليا ، وبشكل هادئ، بإجراء عملية مراجعة جذرية لسياستها في العراق. ويشير عدد من المستجدات الأخيرة بوضوح إلى أن هناك تغييرا في المسار قد بدأ بالفعل.
أولا، يخطط البنتاجون لإجراء عملية "إعادة انتشار" واسعة النطاق للقوات الأميركية الموجودة في العراق، ترقى فعليا إلى ما يمكن اعتباره بمثابة سحب لتلك القوات.
فعندما نصل إلى نهاية يونيو، وهو الميعاد الذي وعدت الولايات المتحدة أنها ستقوم فيه بنقل السيادة للعراقيين، ستكون القوات الأميركية هناك، والتي يصل عددها حاليا إلى 130 ألف جندي، قد نقصت بمقدار 25 ألف جندي. وبعد ذلك، يتوقع إجراء المزيد من الخفض في أعداد تلك القوات، في إطار عملية إعادة التدوير التي تقوم الولايات المتحدة بإجرائها لقواتها المنتشرة في مختلف مناطق العالم، لأن القوات الأميركية الموجودة في العراق قد أصبحت مرهقة وتحتاج إلى الراحة.
من الواضح أن الرئيس بوش يرغب في أن يصبح قادرا -قبل موعد الانتخابات الأميركية في الثاني من نوفمبر بوقت كاف-على الإشارة إلى تحقيق فك اشتباك عسكري، وسياسي كبير مع العراق. السبب في رغبة الرئيس هذه، هو أن حرب العراق لا تحظى بقبول في أوساط الناخبين الأميركيين ،الذين لا يزال الكثيرون منهم غير قادرين على فهم السبب الذي دعا إلى خوض تلك الحرب في الأساس. علاوة على ذلك، فإن هناك ما يربو على 500 جندي أميركي قد لقوا مصرعهم هناك، كما أن عددا آخر يتراوح ربما ما بين 6000 إلى 7000 جندي قد جرحوا، أو أرسلوا إلى الوطن، وهم يعانون من صدمات، أو غيرها من أشكال الاضطرابات النفسية. وفي الوقت الراهن يتعرض ما يزيد على اثني عشر أميركيا في العراق، للقتل أو للإصابة أسبوعيا.
وهذا العدد لا يعتبر كبيرا بالطبع بالنسبة لدولة في حجم أميركا، ولكن المشكلة تكمن في أن الرأي العام الأميركي، قد اصبح الآن واعيا بحقيقة أن عملية تحقيق الاستقرار في العراق تثبت يوما بعد يوم، أنها أكبر، وأكثر تكلفة بكثير مما كان يعتقد في البداية، وهو الأمر الذي لا يستسيغه معظم الأميركيين.
وفي لهفتها على فك ارتباطها مع العراق، تقوم الولايات المتحدة حاليا ببذل محاولات نشطة لطلب المساعدة من الأمم المتحدة. ويمثل هذا التطور الثاني البالغ الأهمية، خصوصا إذا ما تذكرنا أن الولايات المتحدة و خلال الفترة التي سبقت الحرب، لم تعبر عن شيء سوى عن ازدرائها للمنظمة الدولية، التي وصفتها آنذاك بأنها قد أصبحت غير ذات صفة. على رغم ذلك، ما زال الصقور من المحافظين الجدد يؤكدون على حق أميركا في العمل الأحادي، وفي شن الحروب الوقائية، دون طلب إذن من أي أحد، كما جاء على لسان الرئيس بوش في خطابه عن حالة الاتحاد في العشرين من يناير .
ولكن مثل هذا الموقف العدواني، أصبح الآن يبدو على نحو ما وكأنه قد أصبح شيئا من الماضي .فما نراه الآن في الواقع هو أن أميركا قد بدأت تقر بشكل متدرج أنها في حاجة إلى أصدقاء وحلفاء، وأن الأمم المتحدة ربما تكون هي المنظمة الوحيدة القادرة على انتشالها من أوحال المستنقع العراقي. و يذكر في هذا السياق ، أن رئيس الإدارة المدنية الأميركية في بغداد "بول بريمر" كان مقررا أن يقوم بمقابلة السكرتير العام للأمم المتحدة "كوفي أنان" في مقر المنظمة في نيويورك، في الوقت نفسه الذي تم فيه استدعاء "الأخضر الإبراهيمي" مبعوث "أنان" الخاص للسلام والأمن في أفغانستان إلى واشنطن، لإجراء مباحثات مع وزير الخارجية الأميركي "كولن باول"، ومستشارة الرئيس بوش للأمن القومي "كوندوليزا رايس". والسبب الذي جعل واشنطن تسعى للحصول على المساعدة من الأمم المتحدة، هو أن خططها الخاصة بنقل السيادة إلى العراقيين قبل حلول الثلاثين من يونيو أصبحت تواجه بعض المتاعب حاليا. فالشيء الذي أصبح معروفا لدى الجميع الآن، هو أن رجل الدين الشيعي البارز "آية الله الكبرى على السيستاني" قد دعا إلى إجراء انتخابات مباشرة، يتوقع إذا ما تمت أن تمنح الطائفة الشيعية التي تشكل غالبية الشعب العراقي ، صوتا مهيمنا في أية حكومة مستقبلية. ومما يذكر في هذا السياق أن "السيستاني" ما زال يرفض حتى الآن مقابلة "بول بريمر"، كما أن أنصاره قد خرجوا في مظاهرات ضمت عشرات الألوف، بينت بشكل جلي أن إرادة الطائفة الشيعية لا يمكن تجاهلها.
بناء على ذلك، وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة لإعادة التفكير بشأن خطتها الرامية لإجراء انتخابات غير مباشرة، تقوم على انتخاب أو تعيين عدد من الوجهاء في محافظات العراق الثمانية عشر. في هذا الإطار، تسعى الولايات المتحدة حاليا لإقناع السيستاني وأتباعه، أنه بسبب عدم وجود سجلات انتخابية، و حالة عدم الاستقرار السائدة في العراق، فإن عقد انتخابات خلال الشهور القادمة سيكون أمرا غير واقعي، إن لم يكن مستحيلا. ردا على ذلك أعلن السيستاني بأريحية أنه سيقبل بأي شيء تقرره الأمم المتحدة، ثم قام بفرض "كوفي أنان" على الأميركيين -وهو ما يعتبر في حد ذاته تطورا على قدر كبير من الأهمية.