في خضم الحرب الباردة تميزت أميركا الستينيات وبدايات السبعينيات بنزعة عسكرية واستخباراتية بارزة، واكتسب رجال أجهزتها الأمنية، ومن خلال ممارساتهم، لقب الأميركي القبيح أو البشع· وتدخلت واشنطن في العديد من مناطق العالم بصورة فجة وصارخة كما في فيتنام ولاوس وكمبوديا ودول متعددة في أميركا اللاتينية، وبصورة استخباراتية ماكرة لعل أشهرها كان إجهاض حكم سلفادور أليندي الديمقراطي في تشيلي· واليوم يبدو أن هذين العمودين (الجيش والاستخبارات) تعود لهما المصداقية في الحياة السياسية الأميركية· ففي رحلة الحرب الأميركية على الإرهاب والتي مرت بكابول وبغداد نجد أن الجيش الأميركي أكمل تخلصه من عقدة فيتنام وهي رحلة طويلة وهمّ قومي بدأ علاجه من خلال الانتصار الكاسح للولايات المتحدة على غزو صدام حسين لدولة الكويت، ولعل ذلك الامتحان بيّن لواشنطن أنها وبتفوقها التكنولوجي تستطيع أن تخوض حرباً كبيرة ومكلفة وبأقل الخسائر في الأرواح والعتاد· ومثل هذه التجربة تكررت، وبنجاح، في المواجهة الصربية والتي تعتبر الحالة الأولى في تاريخ الحروب يكسب فيها سلاح الطيران الحرب ودون حاجة لاستعمال قوات برية· ومن خلال هذه التجربة تكرس علاج عقدة فيتنام ليكتمل مع حرب إسقاط النظام العراقي والتي تمت بسرعة فائقة·
وفي تتبعنا لهذا التغير لابد أن نعود قليلاً للتاريخ وإلى فضيحة "ووترغيت" بالذات· فنتيجة لفيتنام ولـ"ووترغيت" تقلصت سلطات الرئيس الأميركي تقلصاً كبيراً، وشهدت هذه الفترة نهاية ما عرف في السياسة الأميركية بالرئاسة الإمبريالية، ألا وهي فترة الصلاحيات الواسعة للرئيس وللسلطة التنفيذية على السياسة الخارجية الأميركية، وقدرته على تجاهل القيود التي تحاول السلطات التشريعية فرضها· وهذا التوسع في مؤسسة الرئاسة الأميركية له أسبابه التاريخية العديدة لعل أهمها التوسع الكبير في البرامج الفيدرالية والاهتمام الكبير بالشأن الخارجي في فترة الحرب الباردة·
ومع تقليص دور الرئاسة في هذه الفترة والتراجع الكبير نتيجة للتورط، وبعد ذلك الهزيمة، في فيتنام شهدت نهاية السبعينيات والثمانينيات مجموعة من الانتصارات والتقدم الاستراتيجي السوفييتي من أفريقيا إلى أفغانستان: وتزامن ذلك مع عقدة المؤسسة العسكرية تناقص نفوذ الأجهزة الاستخباراتية الأميركية، فالناخب الأميركي في هذه الفترة بحث عن الشفافية وعن بوصلة أخلاقية يستدل بها في ظل التورط المريب للرئيس ريتشارد نيكسون وكذبه المكشوف في ووترغيت وفي جنوب شرق آسيا·
حاول الرئيس المحافظ رونالد ريغان أن يعيد لأميركا المحافظة هيبتها من خلال تبني برنامج إنفاق عسكري كبير ومن خلال التصدي للاتحاد السوفييتي، وفي هذا السياق شهد عهده فصل إيران كونترا والذي كان بمثابة بداية عودة الاعتبار لأجهزة الاستخبارات الأميركية برغم أن الآثار المباشرة لفشل وانكشاف هذه العملية، بل وسذاجتها السياسية، أدت إلى تأثير معاكس، كما أن خطاب ريغان اليميني، وبرغم شعبيته الشخصية، لم يلق ذلك الالتفاف الوطني في تلك الفترة، ولعل تطور أساليب وحسن تنظيم التيار اليميني المحافظ غيّر من المعادلة بين يومنا هذا ومحاولة ريغان تلك·
ولعله من الغريب أن تبدأ عودة المصداقية للمؤسسة العسكرية والاستخباراتية مع رئيس معتدل وسطي هو بوش الأب الذي فرضت عليه الأحداث سيرها فكان في ردّ فعله على مستوى التحدي وكشف عن حنكة سياسية وحدس دبلوماسي نادر، واستطاع أن يتصدى للغزو العراقي للكويت بكل مهارة، ومن خلال هذا الفصل بدأ طريق العودة للعسكر الأميركي بعد أزمة فيتنام، فالانتصار كما ذكرنا كان حاسماً وسريعاً والخسائر البشرية محدودة، وهذان المقياسان الرئيسيان يعنيان كل شيء لمجتمع ديمقراطي تعددي كالولايات المتحدة·
ولعب إرهاب سبتمبر دوراً رئيسياً في الشق الثاني لهذه العودة المزدوجة، فالهجوم على البرجين أثبت أن قدرات واشنطن الاستخباراتية غيّر فعالة، وتبع ذلك جدل كبير حول أسباب هذا الفشل الاستخباراتي، وشملت التبريرات والتفسيرات الاعتماد الكبير على التكنولوجيا على حساب القدرات البشرية على الأرض، والقدرات البشرية تعني بطبيعة الحال غياب القدرات التحليلية ضمن الأجهزة الاستخباراتية، ويضاف إلى ذلك تبني العديد من القوانين التشريعية المقيدة لهذه الأجهزة، إنه عصر يختلف اختلافاً كبيراً عن بداية الخمسينيات حين اتصلت السي آي أيه بثوار يوليو في مصر ولعبت دوراً في سوريا والعراق وانقلبت على رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق من خلال عملية إجاكس الشهيرة·
واليوم، ومن خلال هذه التجارب نرى عودة جديدة للنسر الأميركي تركز على القوة بدلاً من الدبلوماسية، والرغبة في التدخل التي نراها من واشنطن في العديد من الملفات الساخنة تأتي من عودة الثقة في هذا السيف العسكري الاستخباراتي المزدوج والذي تأثر في العقود الماضية من تراجع أو أكثر، وأما التجربة فتقول لمن يريد أن يتعلم منها إن القوة وممارستها لا يمكن أن تكون بديلاً للدبلوماسية والقدرة على بناء الأحلاف والصدا