لم أكن على معرفة بالروائي والكاتب الكبير عبد الرحمن منيف إلا من خلال قراءتي لكتبه الثمينة ومن خلال عملي في الصحافة اللبنانية والخليجية على مدى 25 سنة. تجربتي معه كانت كالآتي: كان كلما ذكر اسم المنيف في اجتماع تحرير وضعت تحت الاسم عشرات الخطوط الحمراء, إلى أن تعلمنا ألا نذكر الاسم إلا في الجلسات الخاصة أو في بيوتنا لنضعه وكما يقول المصريون - في النيني-(أي في بؤبؤ العين)محفوظا من الأذى, فكتابات منيف كانت تحمل وجع الحقيقة المالح كالمدن التي وصفها. كنا نعرف هذه الحقيقة ولا نملك طهر المنيف فنبتلعها مع زادنا وأيامنا. يكبر هو وينصقل, ونخبو نحن خزيا وصمتا قاتلا.
مات الرجل, الرجل نعوه وشيعوه إلى مثواه الأخير في قسم شهداء الحروب في مقبرة الدحداح حيث أوصى أن يدفن. شهيد الكلمة الحرة النابعة من اليقين والمعرفة والجوارح. كان قد تعب من التشرد والطوفان في بلاد العرب الواسعة فاستقر به المقام في دمشق التي آوته ومنحته جواز سفر له ولأولاده.
لم يمت عبد الرحمن منيف فجأة. كان مصابا بالسرطان. عانى وتوجع وادخل إلى المستشفى. وإن لم يعرف العالم العربي عن مرضه فبالتأكيد لأن أخباره وأخبار أدبه كان تحتها خطوطا حمراء. إلا أن المؤكد أن الذين وضعوا هذه الخطوط كانوا يعرفون أنه على وشك الموت ولم ينبسوا ببنت شفة.
مات الرجل. نعته كل الصحف العربية ومنها الخليجية. بعضها خصص صفحة وبعضها خصص نصف صفحة, إلا أن الكل أجمع على أن الراحل الغالي كان أديبا لم تلده ولادة. بكاه أصدقاؤه وبعض المتزلفين الذين نقرأ لهم عند وفاة أي فنان أو كاتب.لم يقل أحد منهم إن عبد الرحمن منيف القومي العربي كان ممنوعا من دخول بلده إلا بشروط, وإن كتبه التي كانت تباع في لندن وبيروت كانت تصادر في المطارات وتهرب مثل الهيرويين إلى المكتبات الخاصة في البيوت...كثير, كثير لم يقله أحد.
مات الرجل بعيدا عن أرض آبائه وأجداده, عن أرض أحبها إلى درجة أنه حلم بتحويلها إلى مجتمع حر, للكلمة فيه قيمة ومعنى. أحبها لدرجة أنها حين عصته هجاها فجرحها وهو على يقين أنه يجرح معها نفسه.
مات الرجل, وكأنه يوم مات... عاش, فسمح وفي لفتة كريمة من الأمير عبد الله بن عبد العزيز بنقل جثمانه إلى موطنه وتخصيص مسكن وجوازات سفر ورواتب شهرية لزوجته ولأولاده الأربعة.
عبد الرحمن منيف روائي فذ. لم يعرف وطنه ولا العالم العربي قيمته الأدبية والفكرية. هو مثل العمالقة, لن تكتشف عبقرية أدبه إلا بعد سنوات عندما يدرس في مناهج الأدب الروائي الحديث كأنموذج مختلف عن الكثير مما أفرزته الثقافة العربية, وذلك في مدارس وجامعات السعودية وطنه الأب وغيرها من منارات العلم في العالم العربي.
في ذلك اليوم يكون حلم عبد الرحمن منيف قد تحقق وخرجت الحرية حسب منظوره إلى الملأ والحياة.
في ذلك اليوم يكون قد عاد للمنيف حقه, وحياته.
رحمه الله, أديب عربي آخر رحل... قد نكرمه كما ينبغي أن يكون التكريم بعد؟؟؟؟سنة.