طغت أخبار التوقيع الاحتفالي على الوثيقة التي سميت بوثيقة جنيف على غيرها من الأخبار والأحداث، وبخاصة أن وثيقة جنيف هذه قد أغفلت إغفالاً تاماً موضوع حق العودة والتعويض الذي نص عليهما قرار الجمعية العامة 194 (11/12/1948) ونصت عليهما مبادرة السلام العربية المقررة بالإجماع في قمة بيروت في 28/3/2002·
وبناءً على الفقرة الرابعة من مبادرة السلام العربية وهي "ضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني والذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة" أرسل لبنان وفوداً إلى الدول الأجنبية وبخاصة الاتحاد الأوروبي من أجل شرح هذه الفقرة التي تخص مسؤوليات الدول العربية، في حين أن خريطة الطريق -وهي مشروع أميركي في أصله دولي في مظهره- قد أتت على ذكر قضية اللاجئين في المؤتمرين الدوليين اللذين ستدعو إليهما اللجنة الدولية في عام مضى وفي عام قادم إذا ما وافقت الأطراف المعنية على دعوة هذا المؤتمر· وفي جميع الأحوال فإن حل قضية اللاجئين -حسب نص الخريطة- سيكون في عام القادم 2005 لدى دراسة الوضع الدائم للدولة الفلسطينية الناشئة بما يشمل الحدود والقدس واللاجئين والمستعمرات على أساس أن يكون الحل واقعياً ومنصفاً· ولم تشر خريطة الطريق قط إلى القرار 194 ولم تجعله أساساً مرجعياً لحل قضية اللاجئين· وهذا ما دعا أهل اليسار وأهل اليمين معاً في إسرائيل إلى أن يفسروا حق العودة بأن تكون عودة اللاجئين حصراً إلى الدولة الفلسطينية الوليدة· وهكذا جاءت وثيقة جنيف وفق نظرة أهل اليسار واليمين· وحتى يمنع أرييل شارون نشوء الدولة الفلسطينية وفق خريطة الطريق، لجأ إلى بناء السور الأمني واختبأ وراء السياسة وحاول إقناع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بوجهة نظره هذه، بمثل ما حاول إقناع الرئيس الأميركي أيضا بأن السبيل الوحيد لكي يمارس اللاجئون حقهم في العودة (وهم أكثر من 5 ملايين) هو بتحرير وطنهم فلسطين من نير الاحتلال الإسرائيلي وذلك بتدمير إسرائيل، لذلك فعلى شارون وحلفائه أن يكافحوا "الإرهاب" في منبعه، ويكون ذلك بإقامة "الجدار الأمني" لمنع الإرهاب، وبخاصة قبل أن تصدر محكمة العدل الدولية فتواها الاحترازية بوقف العمل في الجدار حتى تبت المحكمة في القضية نهائياً· ولهذا سبقت إسرائيل القرار الاحترازي للمحكمة بأن وصفت الجدار بأنه لمنع الإرهاب وبأن طلبت من المحكمة أن تضم في هيئتها المؤلفة من 15 قاضياً إسرائيلياً، وبخاصة أن بين هيئة المحكمة يوجد عضوان عربيان (مصري وأردني) وهذا ما يبعث القلق في نفس إسرائيل التي تظن أن هذين القاضيين يحملان أفكاراً مسبقة في حين أنهما قاضيان نزيهان كل النزاهة· ولكن هاجس التسويف والرفض يسيطر على الفكر الإسرائيلي·
ويخشى أن ينتهي بناء الجدار لتبدأ مرحلة "الترانسفير" التي تقابل بالعبرية كلمة "جيروش" وهي "الطرد"، وذلك لكي تتفادى إسرائيل غلبة الديمغرافيا الفلسطينية على الديمغرافيا اليهودية في عام 2020 بعد أن تتساويا في عام 2010، وبخاصة أن الفلسطينيين في إسرائيل نفسها تجاوز عددهم الآن المليون أي ما يزيد على 20% من سكان إسرائيل نفسها -حسب الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية-· وهذا ما يجعل شاورن يكرر اقتراحه بأن يكون الأردن هو الوطن البديل للفلسطينيين، وهو الآن يدفع مشروعه هذا خطوة خطوة، وبخاصة أن شارون يهدف إلى تقليص أمل الشعب الفلسطيني في إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية بأن تتفضل إسرائيل بفتح أبواب وحواجز في السور الإسرائيلي لتمرير الغذاء والدواء والسلع للشعب الفلسطيني المحاصر، بانتظار ترحيله أي "ترانسفيره" إلى بلد آخر، وبخاصة أن نحو 150 ألفا من الفلسطينيين قد هاجروا سلفاً· وبذلك لم يعد الجدار أمنياً وإنما هو استراتيجي يؤثر على مجرى الصراع العربي-الإسرائيلي كله· لا ننكر أن شارون انتهز عامل الوقت لمشروعه، فالعام هو عام انتخابات أميركية ولا يزال الاحتلال في العراق قائماً، وسوريا ولبنان وإيران مهددة، والسودان مشغول بشأنه الداخلي، وليبيا أعلنت تنازلها عن أسلحة التدمير الشامل·
وتبدو إقامة الجدار لا تحل الخوف الأمني الإسرائيلي، فالشعب الفلسطيني في أغلبه رفض وثيقة جنيف (58% مقابل 39% من الشعب الفلسطيني)، كما أن مدافع الهاون والصواريخ والأنفاق تستطيع تجاوز الجدار· وهذا ما يثبت الفساد الاستراتيجي للجدار الشاروني، بمثل ما يثبت أيضاً فساد وثيقة جنيف وبخاصة في شأن حلها قضية اللاجئين بما ينفي عن إسرائيل والقوات الصهيونية أي مسؤولية مادية وأخلاقية عن نكبة فلسطين والفلسطينيين في عامي 1948-1949·