حضرتُ بالجامعة الأميركية بالشارقة مؤتمراً عن التواصُل الثقافي، والإسهامات العلمية والثقافية الإسلامية في تحولات العالم من طريق التحـول المعرفي· والواقع أنّ هذه الأطروحة التي طوَّرها ميشيل فوكو عن علاقة المعرفة بالسلطة، سادت في تاريخ العلوم، وفي قراءة العلائق بين الثقافات والحضارات، واشتهرت في دراساتنا واقتباساتنا منذ الثمانينيات من خلال تطبيقات إدوارد سعيد لها في كتابيه : الاستشراق، والثقافة والإمبريالية· وما انحلّت المشكلةُ طبعاً في لقاء الشارقة بين عددٍ من كبار الباحثين والدارسين في تاريخ العلوم والأديان والثقافات· لكن اتّضح أمرٌ ما عاد إنكارُهُ ممكناً: إن دراسة التواصل أو القطيعة في العلوم البحتة والتطبيقية أسهل بكثير من قراءة العلاقات بين الأديان والثقافات، والتواصل في التجارة وبين الدول· فهناك أمورٌ محدَّدةٌ في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والميكانيكا وبناء السفن، تمّت فيما بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، يمكن الآن من طريق المخطوطات، وتشابه التراكيب تتبُّع تعاقبها وتطورها، وإثبات هذا الإسهام إو ذاك· ولذلك يصعُبُ الاختلافُ أو الإنكارُ لهذه الناحية· ومع ذلك؛ فقد مضى حوالى القرنين على القراءة في تاريخ العلوم، دون أن يكونَ هناك تقديرٌ حقيقيٌّ لإسهامات العرب والمسلمين في تطورات العلوم البحتة والتطبيقية· والمسألة عند العلماء لا تتعلقُ بالامتداح والتقدير ؛ بل بإمكان كتابة تاريخٍ يمتدُّ فيما بين اليونان والرومان وإلى الأوروبيين مباشرةً دونما مرورٍ بالمسلمين إلاّ باعتبارهم تراجمة· وقد تمَّ دائماً تجاوُزُ الثغرات الكبيرة أو إنكارها· ويحدُثُ التقدم لهذه الناحية منذ مدة بطرق بطيئةٍ ومُضنية عبر بحوثٍ دقيقةٍ أسهمَ فيها في العقود الأخيرة باحثون كبارٌ عربٌ ومسلمون مثل رشدي راشد وعبد الحميد صبرا وفؤاد سزكين·
لكنّ أكثر الباحثين في إسهامات العرب والمسلمين في التاريخ العلمي والثقافي للبشرية ما يزالون من غير العرب أو المسلمين· وكثيرٌ من هؤلاء لا تدفعُهُم عاطفةٌ معيَّنةٌ بل تؤدّي بهم الموضوعية إلى التدقيق والمراجعة وسؤال المسلَّمات والسوائد، وليس في الصورة التاريخية وحسْب ؛ بل وفي العلوم الاجتماعية والاقتصاد والجغرافية السياسية والنظام العالمي، وعلائق الدين بالدولة ومتغيراتها عبر العصور· والمعروف أنـه بالتساوُق مع وضع العرب والمسلمين على خريطة صنع الحضارة ضمن الثقافات الكبرى: (الإسلام، والصين، وأوروبا)، اتسع البحث في أعماق التاريخ، ليصل إلى المصريين والبابليين ؛ وقُرئت من جديد، وللمرة الألف، الإشارات إلى مصر وبابل لدى أفلاطون وهوميروس، وفي الشذرات المتوارَثة مما قبل ومما بعد·
ويبقى الأمر مع ذلك صعباً في المجالات الفلسفية والفكرية والثقافية والدينية· وفي الواقع فإنّ النزاع أو الصراع بدأ هناك، وليس في العلوم البحتة والتطبيقية· فحتى القرن السابع عشر كان قانون ابن سينا في الطب، وبعض كتب الرازي، وبعض كتب الفلك، كلُّ ذلك ما يزال مستعملاً في الجامعات، دونما ضجيجٍ كثير ·
في ذروة العصر الاستعماري، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تطورت أحاديث وأقاصيص التفوق، ووقع ضحيتها؛ أو أنّ ذلك كان بوعيٍ وعن تقديرٍ مُسْبَقٍ، علماء كبارٌ بالشرق القديم ودراساته مثل إرنست رينان· فقد وقع الرجل في فخّ التمييز بين العقليات بناءً على الأعراق· ثم اكتسحت الداروينية الاجتماعية مجالات العلوم الأخلاقية والثقافية والنفسية والتاريخية، ووقع قسمٌ من الاستشراق في تلك الوهدة، التي لم تؤثر فيه كما أثرت في الأنثروبولوجيا مَثَلاً؛ لكنّ التاريخ صار في إحدى أكثر لحظاته حساسيةً : تاريخ التفوق الغربي، في مواجهة بدائية أو انحطاط كلّ العوالم الأخرى· وصحيحٌ أنه مع انهيار الفاشيات في أوروبا، وتطور العلـوم البيولوجية والجينية، ما أمكن الاحتفاظ بالأطروحات العرقية ؛ لكنْ في التاريخ الفلسفي والثقافي؛ فإنّ هذه الأطروحات استمرت، واستمرت معها >البحوث الموضوعية< حول الأسباب >الموضوعية< أيضاً للانحطاط الهندي والصيني والإسلامي·
وكان لا بدَّ من الانتظار إلى أن اكتسحت عواصفُ التخلُّص من الاستعمار تحكُّمَ "السلطة" بالمعرفة، حتى التاريخي منها! فالذين أقاموا تاريخاً متواصلاً من الصُوَر المسيطرة في الماضي، أرادوا من وراء ذلك دعم سيطرتهم في الحاضر· وقد كانت موجات اليقظة الهائلة بآسيا وإفريقيا - والتي استندت في جانبٍ منها إلى وعيٍ قوميٍ ويساريٍ لدى النُخَب المتعلمة بالغرب - سبباً في زعزعة وعي الغرب بذاته المتفوقة، كما كانت سبباً لثوراتٍ في العلوم والإنسانيات أطروحاتٍ وتواريخ، أدَّت فيما أدت إليه إلى تعرض العلوم الاجتماعية والتاريخية إلى تفكيـكٍ وإعادة تركيب، ما تزالُ عملياتهما تجري حتى اليوم، من ضمن الحداثة أوما بعد الحداثة·
ما هو الغرضُ أو الهدفُ من هذه القصة كلِّها؟ مؤتمر الشارقة أراد، وبمقاربات علميةٍ وثقافية، أن يعطي للنقاش الجاري حول "حوار الحضارات" بُعْدَهُ التصالحي و