مر أكثر من ستة أشهر على تنصيب مجلس الحكم العراقي، فما هي محصلة التجربة؟ ربما تكون الحسنة الوحيدة لتنصيب المجلس من قبل الأميركيين هي ظهور حجمه الحقيقي، فلو لم يكن أعضاء المجلس في موقعهم الحالي لملأ كثير منهم الدنيا صراخاً وتصريحات عن حلول مفترضة للموقف في العراق، ولا عتبروا استبعادهم أو غيابهم عن ساحة القرار السبب الأول في انتقال الوضع في العراق من سيئ إلى أسوأ· ولكن لسوء حظ أعضاء مجلس الحكم الموقرين وحسن حظ العراقيين أن التجربة كشفت عن الأحجام الحقيقية لكثير منهم، واتضحت للعيان قدرتهم المتواضعة على فهم الوضع في العراق أو التأثير فيه· وربما يكون هذا مفيداً في المستقبل، حين يتاح للشعب العراقي أن يختار حكامه والمسؤولين عنه، ولو أن ذلك يبدو الآن حلماً بعيداً تحوطه كثير من الشكوك والمخاوف· ولست في حاجة إلى الإشارة إلى الكارثة المرتبطة بالحسابات الطائفية والعرقية، وتحول كل عضو من أعضاء مجلس الحكم إلى ممثل لطائفة أو منطقة أو جماعة، فالحقيقة أنهم عجزوا حتى عن أن يكونوا ممثلين لهذه الطوائف والجماعات· وبذلك تم تكريس الطائفية كحقيقة ماثلة في معادلة السلطة، دون أن يسفر ذلك عن تحسين وضع أي من طوائف الشعب العراقي، أو تتحقق لها مصلحة على أرض الواقع·
يذكرني وضع كثير من أعضاء مجلس الحكم بقصة قصيرة تدور أحداثها حول ملقن مسرحي يحلم طيلة عمره بأداء دور "هاملت"، وينتقد أداء الممثلين الكبار الذين لا يستطيعون في رأيه أداء الدور بكل أبعاده، ويستغرب تصفيق الجمهور لهم، ويعتقد أنه أقدر على أدائه من أي ممثل، وينتظر الفرصة التي سيسحر فيها الجمهور والنقاد بأداء أسطوري لم يروا له مثيلاً، ويتدرب عليه كل مساء· وتأتي الفرصة بالفعل حين يغيب الممثل الأول ويتقدم الملقن لإنقاذ الموقف، ولكنه يقف على المسرح تائهاً ضائعاً عاجزاً، وتخرج الكلمات من فمه واهنة خالية من كل معنى، ليثير السخرية والضحكات الهازئة من الجماهير التي كان يستعد لإبهارها·
ليست القضية هي الخوض في أسباب فشل مجلس الحكم، لكن ما يعنينا هو حال المجلس بعد ستة أشهر فاصلة في تاريخ العراق، ستؤثر في مستقبله وتشكيل واقعه السياسي والاجتماعي في المرحلة القادمة· كان المجلس هشاً وضعيفاً منذ البداية، لكنه يوماً بعد يوم أخذ يزداد هشاشة وضعفاً وهرما، ولم ينجح حتى في أداء المهام المتواضعة الموكلة إليه، ناهيك عن تفعيل دوره وتوسيع صلاحياته، أو إفراز قيادات سياسية وفنية على المستويات الأدنى، وتقديم نموذج للأداء السياسي الفعال في الداخل والخارج، بحيث يثبت أن في العراق قوى مؤهلة لتسلم زمام الأمور وإدارتها بكفاءة ونجاح· لقد اختير هؤلاء الأعضاء لأنهم يمثلون -حسب ما قيل- مختلف فئات الشعب العراقي وطوائفه، فهل أثبتت التجربة أنهم يمثلون أحداً غير أنفسهم؟ من المؤكد أن أعضاء مجلس الحكم لو كانوا يمتلكون أي قاعدة شعبية لما تضاءل المجلس وتقزم دوره إلى الحد الذي ظهر عليه في الأشهر الستة السابقة، ولأعانتهم قواعدهم الشعبية على تحويل رؤاهم وخططهم -إذا كان لديهم خطط- إلى واقع· وحتى لو لم يكن لهم تلك القواعد الشعبية في البداية، فإن عملاً جاداً وحقيقياً يسعى إلى تحقيق مصالح العراقيين كان كفيلاً ببناء مثل هذه القاعدة وتوسيعها· ولكن حتى ذلك لم يحدث·
بهذا عاد أعضاء مجلس الحكم إلى وضعهم الحقيقي: عائدون من الخارج أتقنوا استثمار معارضتهم لنظام صدام حسين، يحيط بهم بضع مئات من الأنصار والمنتفعين وتراهن عليهم قوى خارجية، وزعماء مناطقيون وطائفيون وعرقيون يمثلون أنصارهم فقط، ولا يمثلون الأغلبية الساحقة من الفئات التي ينتمون إليها، وعدد من الشخصيات المغمورة التي أتت بها توازنات وضغوط واعتبارات ليس منها صالح الوطن أو تفعيل أداء المجلس وتحويله إلى كتلة متناغمة تحقق أهدافاً متفقاً عليها· ودخل أعضاء المجلس إليه كل بأجندته وأولوياته، والتي تتناقض أو تتعارض مع أجندات الآخرين وأولوياتهم أو تتناقض معها· والنتيجة كانت تحول المجلس إلى كيان مشلول عاجز· وغاب بعض الأعضاء عن الوجود تماماً، وعاد الآخرون كما كانوا أفراداً مشتتي الفكر، وبعيداً عن المصالح الذاتية والتحالفات الشخصية لا يعرف أي منهم إلى أين يسير·
لو كان لدى أي من أعضاء مجلس الحكم شجاعة حقيقية لاستقال منذ اللحظة التي اكتشف فيها حقيقة المجلس، ولوضع الأميركيين أمام حقيقة أنهم لن يجدوا متعاونين صوريين يرضون من الحكم بلقب لا يعني شيئاً· ولو تحول هذا الموقف إلى موقف جماعي لشكل عامل ضغط كبيراً، إذ إن استقالة عشرة من أعضاء مجلس الحكم -مثلاً- ستكون كافية لتنبيه الأميركيين إلى أن ثمة قوة حقيقية لها مطالب محددة ومواقف معروفة، وعليهم أن يحسبوا لها حسابا· لكن كعادة المسؤولين العرب، فهم لا يستقيلون وإنما يقالون، ولا يتنحون وإنما يخلعون، وكرسي السلطة لديهم أهم من كل ما سواه، إذ إنه ليس وسيلة لتحقيق رؤية أو مصلحة وطنية، ولكنه هدف في ذاته، أو هو الهدف الأسمى والأهم· وكانت معركة رئاسة مجلس الحكم هي أوضح مظاهر