غالباً ما نتهم الغرب بعدم معرفة الشرق وآلامه وأحاسيسه، وغالباً ما نقول إن الآخرين لا يفهمونا ولا يفهمون ثقافتنا وأفكارنا· ونحاول على الدوام أن نغيّر من نظرتهم إلى قضايانا وأفكارنا، ونحملهم على إعادة النظر بعين من العدل إلى ما تمور به منطقتنا من ظلم ومن معاناة· والحقيقة أن الغرب ليس كتلة واحدة، ونحن ندعي بأننا نعرف الغرب· وحتى وإن عاش أحدنا سنين طويلة في مدنه والتحق بجامعاته، فإنه يحمل أفكاراً طيبة عن تلك الأيام الخوالي حين كان طالباً يسعى بين ردهات تلك الجامعات· ويحسب المرء فينا نفسه خبيراً في شؤون تلك المجتمعات، وهو ليس كذلك· فانطباعاتنا كطلاب هي انطباعات محدودة بين من نجالسهم ونحتك بهم من هؤلاء الطلاب· وحين يعود المرء إلى بلده، فإنه لا يرى من الغرب إلا سفرائه من دبلوماسيين ورجال أعمال وعسكر وجيوش مجيّشة· ومثل هؤلاء الأقوام لا يعكسون المجتمعات الغربية بتنوعها العرقي والثقافي والمعيشي· بل ربما عكس بعضهم منظوراً مختلفاً، وربما عكسياً لما هم عليه من حسن معاملة وأحاسيس إنسانية· ولذلك فإن للشرق عذره حين لا يرى من الغرب في هذه الأصقاع إلا الحرب والعنف وصنوف الاحتلال·
حملت كل هذه الأفكار والأحاسيس معي وأنا ذاهب في وجولة علمية إلى بعض الجامعات الأميركية· وكنت أشعر أن معظم أبناء الشعب الأميركي يشاركونني الشعور بالعزلة والاغتراب من بعضنا بعضا· فقد تناءت مشاعرنا عن مشاعرهم، وأعمل العنف الموجه ضد شعوبنا من اغترابنا عن التحول الكبير الذي طرأ على ساسة بلادهم، وعلى توجههم نحو أوطاننا· فقد أصبح بعض من هؤلاء الساسة المتفنذين يرون أننا شعوب قد آن أن يعاد استعمارها من جديد، وحين تغيب الرحمة عن الساسة، فإن تشعر بتوحش الإنسان· فهو قد يعود وحشاً كاسراً يفترس كل من يقف في طريقه·
حلمت هذه الأفكار وهذه التصورات في رحلتي الحالية إلى الولايات المتحدة· والحق أن السياسة الأميركية في بلادنا قد أصبحت سياسة ظالمة· وكنت أحمل معظم القوم على اقتراف جزء من هذا الظلم· ولعجبي فقد قابلت أناساً يختلفون كل الاختلاف عن تصوراتي المسبقة عن بلادهم· صحيح أنهم بعيدون عن السياسة الداخلية منها أو الخارجية· وصحيح أنهم لا حول لهم ولا طول في رسم السياسات العامة· فهم أساتذة وطلاب بعضهم في جامعات نائية، وآخرون في جامعات قريبة من دوائر صنع القرار· ولكنهم في معظم الأحيان مستاءون مما هم فيه· فقد حملتهم سياسة العسكرة التي يتبناها أقطاب السلطة في بلادهم إلى التشاؤم بل والعزوف عن هؤلاء الساسة· فبعض القادة يستخدمون الخوف والتهويل كأداة لجمع القطيع واقتيادهم تحت إمرتهم· والخوف عامل نفسي يحرم المرء من التفكير السليم والسوّي· ولطالما أجبرنا أبناءنا ونجبرهم كل يوم على الأخذ بما ننصحهم به من تعليمات بعضها صائب وبعضها دون ذلك· ونحن نستخدم سلاح التخويف في أسرنا ومجتمعاتنا لضمان أمن القطيع والقيادة· ومثل هذا الشعور ينطبق على معظم المجتمعات، بما في ذلك المجتمع الأميركي· والإنسان بطبعه يميل إلى طلب الأمان وهو يعاني في أعماقه من خوف دائم على مستقبله ومصيره·
هذا هو حال القوم في الولايات التحدة هذه الأيام· فهناك خوف من الجار، وهناك خوف من الأجانب، وهناك خوف أعظم من العرب· ولكن هذا الخوف هو خوف مؤقت، وطالما ركنوا إليك وأمنوا جانبك فهم في غاية المودة· وهم من البساطة بحيث يستطيع المرء أن يصل إلى قلوبهم بسرعة عجيبة·
وتحسبهم على قلب رجل واحد ولكن قلوبهم شتى، وأفكارهم متعارضة· وتجلس إلى الفرد منهم فيشتكي لك من الأوضاع السياسية التي تعيشها بلاده· وهم يعيشونهذه الأيام مرحلة انتخابات رئاسية أولية· ويعجب المرء من الخطاب السياسي السائد في دوائر الرأي· وهذا الخطاب لا يؤيد السياسة الحالية لبلادهم، أو يتبنى مبدأ بوش فيما يعرف بسياسة الضربات الاستباقية· وهم يريدون أن يعيشوا في سلم مع العالم، وأن يعيش العالم في سلم معهم·
لذلك فإن العديد ممن تقابلهم، خاصة في الساحل الغربي يشعرك أن بوش وحكومته لم تعد قادرة على تجسيد الرأى العام السائد في البلاد· ومع أن العديد منهم يشعر أن حكومة جورج بوش قد غالت كثيراً في سياستها الخارجية، وانحازت بشكل كبير في قضايا الشرق الأوسط، إلا أنهم يقرون كذلك أن الرجل قد يعاد انتخابه مرة أخرى، لأن البلاد تمر بحالة حرب لم تتنه، ولأن الاقتصاد يمر بحالة تحسن بسيط· وفي كلا الحالين فإن إعادة انتخاب الرئيس ستكون أقرب إلى الحدوث، خاصة إذا ما أخذنا السوابق التاريخية بعين الاعتبار·
كنت أعتقد أن الولايات المتحدة قد تغيرت بتغير سياستها الخارجية· ولكنني فوجئت بأن هذه السياسة الخاجية هي سياسية رسمية، ولا تعكس الرأي العام الشعبي· فلا زال الأميركيون يتحلون بأدب المعاملة مع الأجانب· وكنت أعتقد أنهم يكرهون العرب، ولكنني وجدتهم يتخوفون بالفعل من العرب· ولكني بعد أن يعرفونك فهم كذلك يقتربون منك· وتحدثت مع بعض أساتاذة الجامعات ممن يدرسون مواد عن الإسلام أو تعليم اللغة العربية، ففوجئت بتضاعف أعداد ه