آخر صرعات المؤامرات، وجديد التنظيرات، هي أن الحديث عن تعديل المناهج التعليمية في بلادنا وتطويرها، مؤامرة صهيونية صليبية تستهدف قيمنا وديننا، وتنشد قولبتنا بما يتماشى مع المخططات الاستعمارية في المنطقة، وأنها سوف تتم بضغط من الولايات المتحدة الأميركية وعلينا مقاومة ذلك.
والحديث مع أعضاء حزب المؤامرة صعب ومعقد، فالمسألة ليست مبنية على ضغط أميركي، ولكن لها سببين أساسيين يجعلانها مسألة حيوية ومصيرية، وأول هذين السببين هي أن الضغط للتعليم ليس أميركيا، بل هو ضغط رباني، ومطلب إلهي· فالكلمة الأولى التي أنزلت في القرآن الكريم كانت فعل أمر كرره جبريل عليه السلام على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهي كلمة "اقرأ".· لم تكن كلمة "صل أو صم أو قاتل أميركا"، ومع أهمية كل العبادات، إلا أن الله جل وعلا أعطى الأولوية للقراءة والمعرفة كرسالة ربانية سماوية خالدة تحث على التعلم والمعرفة، وتوجه البشرية إلى أن القراءة والتعليم هي المفتاح لكل شيء، بما في ذلك العبادات التي يتقنها المتعلم أكثر من الجاهل.
أما السبب الثاني والمهم في ضرورة إعطاء التعليم أولوية قصوى، فهو سبب براجماتي ويتعلق بالحقائق والأرقام، فتقرير الأمم المتحدة السنوي عن التنمية في عالمنا العربي والذي تعده مجموعة من العلماء العرب -ليسوا صهاينة ولا صليبيين- يظهر أننا نحتل المركز الأخير بين دول العالم ومناطقه في كافة مجالات التنمية، الأمر الذي سيدفع العاقل بكل بساطة إلى أن ينظر في أرقام التعليم وأحواله، وأن يتفكر في مخرجاته ونتائجه· من الحقائق المفزعة التي يظهرها التقرير أننا في مؤخرة الركب من حيث عدد الأبحاث والنشر، وبأننا نحتل المرتبة الأخيرة من حيث عدد المراكز البحثية وعدد العاملين في مجالات البحث العلمي، وعدد من يتوجهون إلى التخصصات العلمية وغيرها من الحقائق والأرقام التي تدفع العاقل إلى أن يفكر في أسباب ذلك منهجيا.
لنعترف بأن مناهجنا تخرج حملة للورق تسمى شهادات، ولا يمكن لسوق العمل أن يستوعب حملة هذه الشهادات، فتسد سبل العيش في طريق ملايين الشباب وتدفعهم نحو العدمية والفكر الغيبي، أملا في الجنة عبر "الانتحار"·
آخر مؤامرة: حين تمنت أمريكا من دولنا تطوير المناهج التعليمية· فقد كانت بطلبها هذا تتآمر علينا، لأنها تدرك أننا سنرفض كل ما هو في صالحنا، وإن كنا نطالب به قبل تبني أميركا له، تماما مثلما رفضنا أن تسقط نظام صدام في حين لم يختلف اثنان مخلصان عاقلان على ضرورة رحيل ذلك النظام، وبالضبط مثلما نتشبث برئيس السلطة الفلسطينية بعد أن طالبت أميركا بإزاحته، بينما كنا جميعا نطالبه بضرورة التنحي تماشيا مع المرحلة وتطوراتها· وهكذا فإن أميركا تنشد تخلفنا حين تطالبنا بالتطوير، ولو لم تطالبنا بالتطوير لقلنا إنها تنشد تخلفنا أيضاً لسكوتها عن مناهج تعليمنا المتخلفة التي أدت إلى حقائق التراجع في كل شيء.
دعونا نقر بتخلفنا أولا، وبأن العلم هو مفتاح نفض التخلف ثانيا، وبأن اليابان وألمانيا حدثتا وطورتا مناهجهما التعليمية بناء على قراءات الحقائق والأرقام، ولم تلتفتا إلى هذيان المؤامرات والأوهام. بالعلم والمعرفة يمكن لنا أن ننشر التفكير العلمي، وأن ننفض غبار المؤامرات التي تعشش في عقولنا.
عقد بالمنامة قبل أيام منتدى الخليج للتنمية مؤتمره الخامس والعشرين، وكان الإصلاح شعاره، والعودة إلى إصدارات ومناقشات المنتدى منذ ربع قرن لا تخلو من المطالبة بالإصلاح على كافة الأصعدة· السياسية والاقتصادية والتعليمية، وكانت هذه مطالب مثقفي الخليج على اختلاف توجهاتهم قبل احتلال الكويت وقبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر وقبل الإطاحة بنظام صدام، بل حتى قبل إنشاء مجلس التعاون الخليجي نفسه... ترى هل كانوا ضالعين في مؤامرة المناهج·