ها نحن الآن أمام شبكات عناصرها غرباء أثارتهم الفكرة وحفزتهم فهبوا يتحدون الشركات التقليدية بإنتاج سلع تتصف بالجودة العالية ذاتها وبمرونة أكبر، لا بل إنها بالمجان في أكثر الأحيان.
وقياساً إلى الثورات، سنجد أن الهجوم الشديد الافتتاحي قد سكت وهمد، لكن من كانوا قريبين سمعوا هدير العاصفة فطرقت آذانهم وأثارت لديهم أصداءً بعيدة الأثر والنطاق. ففي الشهر الماضي قامت الصين- وهي أكبر سوق ممكنة مقبلة في العالم لتصريف كل شيء على الإطلاق- باختيار نظام التشغيل "لينوكس" لتركيبه على مليون جهاز كمبيوتر، وفي جعبتها خطط أخرى لتركيب أنظمة تشغيل مماثلة على عدد هائل من الكمبيوترات يتراوح ما بين 100 و200 مليون كمبيوتر.
غير أن الصفقة تشكل ما هو أكثر من صفقة برمجيات- أو ما هو أكثر من إعلان الصين استقلالها الرقمي عن شركة “مايكروسوفت” عملاق صناعة برامج الكمبيوتر. ويقول المحللون إن الأمر يحمل في مضمونه نصراً مهماً حققه أسلوب بناء الأشياء الجديد الناشئ، وهي إشارة إلى تلك الشبكات المفتوحة المنتشرة في كل مكان من العالم والتي يترابط فيها عدد كبير من الأشخاص المتحفزين المنتظمين حول الأفكار المثيرة ليقدموا في أكثر الأحيان نتائج عملهم وجهدهم إلى الآخرين بالمجان دون مقابل.
ولطالما كانت شبكات تعاونية كهذه جزءاً من التجربة البشرية في مجالات كثيرة ليس البحث العلمي أولها ولا الإرهاب آخرها. غير أن تحرك هذا المنهج نحو دخول عالم التجارة، ولا سيما قطاع البرمجيات، يشكل تحدياً للأفكار الأساسية التي تتمحور حول مسألة هوية الجهة التي تمتلك الأفكار ومسألة السبيل الأفضل إلى تعزيز وتشجيع الابتكار.
يقول "جون أركويللا" أستاذ التحليل الدفاعي في "مدرسة الدراسات العليا البحرية" في "مونتيري" بولاية كاليفورنيا: “سواءٌ أكان الأمر يعني صعود المجتمع العالمي المدني، العولمة الاقتصادية، أو الحرب على الإرهاب، فإنه في كل الأحوال شديد الاعتماد على المعلومات...إن مسألة البرمجيات تقدم طريقة جديدةً تماماً للنظر إلى العالم”·
إن المفهوم الذي نحن بصدده، والمعروف في عالم البرمجيات باسم “المصدر المفتوح”، آخذ في الانتشار إلى مجالات وميادين أخرى؛ وقد أعلن “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” في أواخر شهر سبتمبر الماضي عن تحقيقه هدفاً أوّلياً يقضي بنشر مواد مناهج 500 دورة من دورات المعهدعلى شبكة الإنترنت؛ وينوي المعهد أن ينشر على الإنترنت مواد مناهج كل الدورات التي يقيمها والتي يبلغ عددها 2100 دورة، ليتيح بذلك لأي شخص كان أن يستخدم المواد وأن يقوم بتعديلها لتلبية الاحتياجات المحلية والخاصة، بشرط الالتزام بذكر اسم المعهد كمصدر للمواد وبعدم تقاضي رسوم أو أجور أو أية مبالغ مالية لقاء تلك المواد.
ويشكل اسم “الدورات المفتوحة” بحد ذاته إشارة مباشرة إلى برمجيات المصدر المفتوح باعتباره القدوة والنموذج. ويقول "ستيفليرمان"، مدير "مركز المبادرات التعليمية والحاسوبية" في المعهد: " إن بروز نظام لينوكس كان أشبه بعملية البناء الجماعي.. ويعني ذلك إحضار البرمجيات المجانية عالية الجودة إلى البلدان والمؤسسات، التي ربما كانت ستتخلف عن غيرها في اقتصاد المعلومات العالمي... وإذا حققنا النجاح فإننا نرغب في رؤية النتيجة ذاتها" في ميدان التعليم العالي.
لقد جرى بناء شبكات مماثلة تتمحور حول مشروع الجينوم البشري وما تولّد عنه؛ وهناك الآن فنانون يقدمون موسيقاهم بالمجان على الانترنت إلى من شاء الاستماع؛ وقد برز إلى الوجود الآن مشروع بحثي جديد باسم”المكتبة العامة للعلوم”؛ لا بل إن منظمة القاعدة أيضاً قامت بتبني منهج المصدر المفتوح لبناء شبكتها المؤلفة من الخلايا الإرهابية.
وتبقى البرمجيات أوضح وأبرز تجليات منهج المصدر المفتوح. وعلى رغم أن المنهج قد بدأ قبل عشرات السنين، إلاّ أنه انطلق بقوة في عام 1991 عندما قام "لينو تورفالدس"، الطالب في جامعة هلسنكي الفنلندية، بأخذ نسخة مجانية أساسية من نظام "يونيكس" وقام بتعديلها لكي تتوافق مع الكمبيوتر الشخصي.
وقام “لينو” بنشر الشيفرة (أي شيفرة مصدر يونيكس) فبدأ الآخرون باستخدامها وكشف العيوب ومواطن الخلل ثم إصلاحها، وصاروا يضيفون ميزات على النظام. وهكذا أخذ نظام "لينوكس" بالانتشار فصار اليوم يحتل المرتبة الثانية بعد شركة "مايكرسوفت" في مجال برمجيات تشغيل كمبيوترات الشبكات،أي الكمبيوترات الخادمة (Servers)، لدى الشركات والبنوك والدوائر الحكومية في كل أنحاء العالم.
وتتحول بلدان كثيرة الآن، ولا سيما في العالم النامي، إلى استخدام نظام "لينوكس" وبرمجيات المصدر المفتوح. وقد تساعد صفقة الصين المذكورة آنفاً على تسريع ذلك التحول كما يقول المحللون. ويضاف إلى ذلك أن الصين واليابان وكوريا الجنوبية تقوم، كما أفادت التقارير، بالانضمام إلى مشروع برمجيات المصدر المفتوح الذي من شأنه أن يقوم بالتركيز على صناعة كل ما يتعلق بالبرمجيات، بدءاً من التطبيقات الحاسوبية (أي البرامج المعنية بتنفيذ مهمة حاسوبية