يوفر القانون الدولي المعاصر لأشخاصه العديد من التدابير والآليات الخاصة بتسوية النزاعات الدولية سلمياً، وقد أصبح للمجتمع الدولي ذاته، وهو يتطور نحو كيانية عالمية، هيئات ذات اختصاص قضائي محدد بموجب المعاهدات المنشئة لها· فما هي أهم الهيئات القضائية ذات الاختصاص العالمي، وكيف تسير شؤونها الداخلية؟ وأي دور ذلك الذي تضطلع به الهيئات القضائية الإقليمية؟
تلك هي التساؤلات الأساسية في الموضوع الذي يعالجه كتاب (الوظيفة القضائية للمنظمات الدولية) لمؤلفه الدكتور خليل الموسى، وذلك في مساحة زادت على 250 صفحة وتوزعت على ثلاثة فصول، يتناول أولها المحاكم الدولية عالمية الاختصاص و(الهيئات شبه القضائية)، وهي كما يوضح جميعها هيئات دولية معنية بالنزاعات بين الدول الأعضاء في المجتمع الدولي، دون أن تكون جميعها أيضاً (محاكم دولية) بالمعنى الدقيق والاصطلاحي المتعارف عليه· وللمحاكم الدولية التي يتاح التقاضي أمامها لجميع الدول، نوعان أولهما المحاكم ذات الاختصاص العام، مثل محكمة العدل الدولية التي تمثل الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، ومحاكم دولية متخصصة ينحصر اختصاصها النوعي في النزاعات الدولية المتعلقة بحقل معين من حقول العلاقات الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة قانون البحار· ويلقي المؤلف مزيداً من الضوء على تشكيل كل من المحاكم الثلاث، واختصاصها الشخصي والقضائي والنوعي، والإجراءات المتبعة لدى هذه المحاكم للنظر في القضايا التي أمامها· أما مصطلح (الهيئات شبه القضائية)، فيشير إلى هيئات دولية ذات صلاحية توفيقية وتحقيقية تعمل على تسوية النزاعات الناشئة بين الدول في مجالات معينة· وقد سميت بذلك الاسم لأنها تتبع الإجراءات ذاتها المعمول بها أمام المحاكم، وهي تباشر وظيفة مشابهة لوظائف المحاكم الدولية، لكنها لا تملك إصدار أحكام ملزمة لأطراف النزاع· وقد أصبحت الهيئات شبه القضائية ظاهرة واسعة الانتشار في الحياة الدولية المعاصرة، وهي تعمل على تسوية النزاعات في مجالات عديدة أهمها: التجارة والاستثمار، حقوق الإنسان، والبيئة· ومن أهم الهيئات المعنية بتسوية النزاعات الدولية في مجال التجارة، هي الآلية المنشأة داخل منظمة التجارة العالمية، وكذلك المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار الذي يتميز عن آلية منظمة التجارة الدولية بكونه يسمح مباشرة لأشخاص القانون الخاص بالدخول كأطراف في اجراءات الدعوى والتسوية حول نزاعات معروضة أمام المركز· ومن أهم هيئات وأجهزة الرقابة على الالتزامات المتعلقة بالبيئة، هي الآلية المنشأة بموجب بروتوكول مونتريال المتعلقة بالمواد المستنزفة لطبقة الأوزون والتي يطلق عليها (إجراء عدم الامتثال)·
أما الهيئات التي أنيطت بها مهمة مراقبة مدى احترام الدول لالتزاماتها المتعلقة باتفاقيات حقوق الإنسان، فهي أجهزة مستقلة وليست أجهزة فرعية تابعة للأمم المتحدة· ومن هذه الأجهزة اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، وهيئات الرقابة محدودة الاختصاص مثل لجنة القضاء على التمييز العنصري، ولجنة مناهضة التعذيب·
لكن ماذا عن القانون الذي يضبط الوظيفة الإدارية داخل المنظمة الدولية وينظم علاقة المستخدمين من الإداريين الدوليين بالمنظمة؟ لقد برزت أسباب ودوافع عديدة وراء إنشاء محاكم دولية إدارية تختص بالرقابة على تطبيق القانون صوناً للوظيفة الإدارية الدولية وحفاظاً على حقوق العاملين داخل المنظمات الدولية· فالمحاكم الإدارية داخل الأمم المتحدة تتلقى اختصاصها من المنظمة الدولية المنشئة لها أو من منظمات دولية أخرى أنيطت بها مهمة الفصل في النزاعات المتعلقة بالوظيفة الإدارية داخلها·
أما الهيئات الإقليمية المتخصصة بوظيفة قضائية فيعود بروزها إلى ظاهرة اتساع حجم التنظيمات والترتيبات الإقليمية التكاملية خاصة في المجالات المتعلقة بالتجارة وحقوق الإنسان والبيئة، مما أدى إلى ضرورة إنشاء أجهزة قضائية للبت في النزاعات الناشئة بين الدول الأعضاء في الهيئات الإقليمية الوليدة· وفي هذا الخصوص يتعرض المؤلف إلى المحاكم الإقليمية ذات الاختصاص العام، والتي تعد نادرة ومن أهمها محكمة التوفيق والتحكم لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، والمحكمة الدولية الإسلامية للعدل المقترح انشاؤها في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي·
أما الهيئات الإقليمية المتخصصة فهي تتعلق بتطبيق النظم القانونية التي تعالج الجوانب ذات الصلة بالتكامل الإقليمي وبالحماية الإقليمية لحقوق الإنسان، ومثالها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والمحكمة واللجنة الأميركيتان لحقوق الإنسان، والمحكمة واللجنة الأفريقيتان لحقوق الإنسان، واللجنة الأوروبية للحقوق الاجتماعية، ومحكمة العدل للجماعات الأوروبية، ومحكمة عدل أميركا الوسطى، ومحكمة العدل لجماعة الأندين، ومحكمة العدل للسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا·
وهكذا يتبين من عشرات الأسماء التي ساقها الكتاب لمحاكم وأنظمة قضائية دولية إقليمية، وشرح وظائفها وتركيبتها الداخلية وطبيعة أحكامها··· إن ال