هل لوحة " رمبرانت" الشخصية الزيتية، أو لوحة الحياة الساكنة لـ "فان جوخ" تضغطان على زر معين في مخ كل إنسان؟. وهل توحي لنا لوحة مرسومة باللون الأحمر بشيء يختلف عما يمكن أن توحي به إلينا لوحة مرسومة باللون الأزرق؟. هل نحن مخلوقون بطريقة تجعل كل واحد منا يشعر بالمتعة عندما يرى تمثالا نصفيا باسم، وبعدم الارتياح لدى رؤية آخر عبوس؟
وإذا ما كانت أمخاخنا هي التي تحدد الكيفية التي يؤثر بها الفن علينا. فماذا يقول لنا ذلك عن الفن. أو عن ذواتنا؟ وهل دراسة الطريقة التي يعمل بموجبها المخ الإنساني يمكن أن تحدد لنا بشكل واضح أن لوحة " الموناليزا" بالذات هي لوحة عظيمة، أم أننا نحتاج إلى بعض القراءة في تاريخ الفن، حتى يمكن لنا أن نحكم على تلك اللوحة بأنها كذلك، أو لكي نعرف الطريقة التي يتحدث بها الأثر الفني – أو لا يتحدث- لمشاهديه المختلفين؟
في وقت سابق من هذا الشهر. عُُُقد في متحف الفنون في مدينة "بيركلي" بولاية كاليفورنيا "المؤتمر الدولي الثالث للتذوق الجمالي والأعصاب" تحت عنوان " الانفعالات في الفن والمخ"، والذي يعتبر بداية – مجرد بداية – لمحاولات العثور على إجابات لتلك الأسئلة وغيرها.
كان ذلك المؤتمر بمثابة واجهة عرض للتقدم الذي حدث في مجال محاولة تخيل ما يحدث داخل تلافيف المخ الإنساني عندما يقع بصر الإنسان على أثر فني، أو يستمع إلى لحن موسيقي. والفرضية الجوهرية لهذا المجال الذي تحدث فيه بعض العلماء المدعوين لذلك المؤتمر، هي أنه في كل مرة يقوم فيها شيء ما في هذا العالم بالتأثير على أحاسيسنا بطريقة معينة، فإن سبب ذلك يكون عادة هو أن هناك خلايا معينة في أدمغتنا قد تمت دغدغتها بواسطة هذا الشيء.
وإذا ما ألقينا نظرة أكثر قربا على (الجزء العصبي ) من المخ، عندما تتم إضاءته بواسطة الفن ( الجزء الأخلاقي) فإن تلك النظرة ستوفر لنا رؤى معمقة بشأن الروابط التي توجد بين الاثنين.
على سبيل المثال، إذا ما قمنا بوضع أشخاص معينين داخل الجهاز الذي يقوم بعمل تصوير لوظائف المخ باستخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي MRI، ثم قمنا بإطلاعهم على رسومات جميلة ، فإننا نستطيع في تلك الحالة أن نرى في الصورة أجزاء صغيرة معينة في المخ وهي تقوم بالتحرك بنشاط زائد بسبب الانتشاء. هذا هو على الأقل ما يشير إليه البحث الذي أجراه البروفيسور سمير زكي عالم الأعصاب البارز بـ"يونيفرستي كوليدج"- لندن، والذي اصبح مؤخرا من الرواد في مجال " التذوق العصبي". والمخ يظهر استجابة مختلقة اختلافا بسيطا عند رؤية القبح ، تتمثل في تقلقل مراكز الحركة داخل المخ تماما مثلما يحدث عندما يكون الإنسان غاضبا.
وعلماء " التذوق العصبي" مثل " سمير زكي" يتخيلون أن تلك الدراسات ستزداد دقة مع مضي الوقت، كما أنهم يأملون في معرفة تفصيلات أكثر تحديدا حول ما يحدث داخل المخ، في طائفة متزايدة من المواقف التي تتأثر فيها الأعصاب عند وقوع النظر على شيء جميل.
" راي دولان" عالم مخ وأعصاب آخر مشهور يعمل في نفس الجامعة التي يعمل فيها
" سمير زكي" ، ويرغب في رؤية علم الأعصاب وقد قام بتسليط المزيد من الضوء على الطريقة التي تحدث بها الانفعالات المختلفة. ونظرا لأنه يتم تعريف الفن بأنه " النشاط الإنساني الذي يخلق الأشكال التي تعتبر تجسيدا للمشاعر" ، فإن " دولان" يعتقد أن فهم الكيفية التي يقوم المخ بها بتشكيل انفعالاتنا سوف يؤدي إلى إلقاء المزيد من الأضواء الكاشفة على التذوق الجمالي أيضا.
والأبحاث التي يجريها "دولان" تشير، ضمن ما تشير، أن ما يحدث في كل مرة نرى فيها صورة لوجه معبر- وهو الوجه الذي يصفه بأنه يمثل " الطريق الملكي لفهم الأحاسيس والانفعالات" – هو أن تقوم مراكز حركة معينة خاصة بالانفعال والأحاسيس في المخ بالإضاءة تماما كما يضيء المصباح الكهربائي. وهذا الأمر يحدث حتى في الحالات التي نرى فيها ذاك الوجه المعبر لفترة قصيرة، أو بشكل عفوي، بحيث لا ننتبه للتعبير الذي يظهر على هذا الوجه.
ليس هناك مجال للدهشة إذن أن نعرف أن اللوحات الفنية التعبيرية قد قامت بدور كبير جدا في هذا المجال.. كيف؟ لأن تلك اللوحات تجعل أدمغتنا في حالة نشاط مستمر سواء كنا نريد ذلك أو لا نريده. فأنت مثلا تستطيع التظاهر بأن اهتمامك ينحصر تحديدا في الضوء، أو في لمسات الفرشاة، في لوحة تصور وجها من الوجوه الرائعة الجمال التي كان يرسمها "رمبرانت"، على سبيل المثال.. ولكن اهتمامك بتلك اللوحة أو تركيزك عليها، بل وحتى تذكرك إياها، يتم دغدغته في الحقيقة بواسطة الانفعالات التي تحدث داخل أجزاء المخ الخاصة بالأحاسيس.
والدراسة التي يقوم بها " دولان" تشير إلى أن الانفعالات تؤثر على عمليات المخ مثل الذاكرة والانتباه، والتي نعتمد عليها في تحديد ما إذا كان الإنسان يفكر بطريقة عاقلة أم لا. وقد قام " دولان" في أثناء مراحل إجراء دراسته بإجراء بعض التجارب البسيطة كقيامه مثلا بمطالبة الأشخاص الذين أجريت عليهم تلك الدراسة بوضع الصور المتشابهة