إذا صح كلام وزير الدفاع الإسرائيلي الذي قال منذ أيام :(لا يوجد الآن عالَمٌ عربيٌ بل شرق أوسط )، فهل صحيح أيضاً أنه ليس في العالم الآن إلاّ أميركا؟ أعني أميركا بوصفها النموذج الأحدث للامبراطورية، وذروة حركة التاريخ والنشاط البشري على الأرض. عندما أراد إبليس أن يوسوس في الجنة لآدم وحوّاء بالأكل من الشجرة المحرمة، دخل عليهما من مدخل النزعة البشرية المتأصلة إلى تحقيق الهيمنة. ولذا ليس غريباً على ابليس أن يتفتق ذهنه المتمرد عن فكرة (جنةُ الخُلد ومُلكٌ لا يبلى) ليهمس بها في أذن أبينا وأمنا -رحمهما الله- ولتكون شديدة الوقع والدّفع حتى أسكرت الإنسان الأول فأكل فهبط بالأمر المقضي إلى الأرض دون أن تبرح فكرة الامبراطورية الخالدة ذهنه. وليس مستغرباً أيضاً أن تتجلى تلك النزعة الآدمية في سعي الأمم إلى نقل نفسها إلى خانة الامبراطوريات-بالعصي وليس بالجزر في أكثر الأحيان- وكذلك بالعلم والعمل. وقد قال وزير الدفاع الإسرائيلي ما قال لأنه يعلم جيداً ما آلت إليه حال العنصرين الأخيرين لدى العرب، فصاح في وجهنا ولم يهمس همساً.
على أن ما يعنينا هنا هو كتاب (الامبريالية الجديدة) الذي يقدم خلاصة أكثر من ثلاثين عاماً من خبرة أحد أعلام الأنثروبولوجيا في جامعة أوكسفورد العريقة وأهم المنظرين في علم الاجتماع. وقد تطرق (ديفيد هارفي)، الأستاذ أيضاً في جامعة (جونز هوبكنز) ومؤلف كتب كثيرة منها (باريس عاصمة الحداثة) و(شرط ما بعد الحداثة)، إلى تحليل ممارسات إدارة بوش في ضوء سلسلة الأحداث الأوسع والأكبر التي تمتد جذورها إلى التحولات والتغييرات التي طرأت على النظامين العالميين السياسي والاقتصادي في عقد السبعينيات حين بدأت سياسات وأرباح ما يسميه بـ(التراكم بفعل التكاثر الموسّع)- بالانزياح لتحل محلها تلك القوة المالية الوحشية والمضاربات والاحتيالات- وهي ما يسميه بـ(تراكم تحوّل الملكية). ومن المنطقي أن يبدأ التحليل بالتطرق إلى دور النفط في غزو العراق. على أن المصالح والأرباح المالية ليست تفسيراً كافياً للتحولات الأحدث في نهج السياسة الخارجية الأميركية. فأميركا تسعى منذ زمن بعيد إلى السيطرة على نفط الشرق الأوسط لحفظ تفوقها الاقتصادي والسياسي. وهكذا لا يكون الاحتلال العسكري للعراق إلاّ المرحلة الأحدث والأوضح من مراحل وتجليات تلك الاستراتيجية.
ولذلك يقتضي فهم التيارات الأوسع نطاقاً إدراك آلية عمل النظام السياسي والاقتصادي العالمي، باعتبار أنه مرتبط ارتباطاً خصوصياً بأميركا. وهنا لا نجد من هو أبرع من (هارفي) في حشد المفاهيم والحقائق الموثقة لتجميع أجزاء فسيفساء الصورة الأعم والأكبر لتدعيم حججه والانتقال بكل سهولة وإحكام ما بين حقول الاقتصاد السياسي والجغرافيا الاجتماعية وتاريخ العالم.
ومن بين عوامل ارتقاء الولايات المتحدة إلى رتبة الهيمنة تبرز قدرتها الفائقة على استحداث الحلول الداخلية للتعارض ما بين القوتين الاقتصادية والسياسية من خلال التوسع نحو الغرب والشرق والابتكار التكنولوجي والسوق الاستهلاكية، فأدى ذلك إلى تراكم الثروات لديها. وساعد غياب الأرستقراطية الإقطاعية في أميركا على تكاتف الحكومة والشركات على نحو أوثق، بخلاف الوضع في أوروبا. ولذلك أصبحت أميركا بعد الحرب العالمية الثانية بطلة البورجوازية والطبقة المتوسطة في كل العالم، فاستطاعت حتى عقد الستينيات أن تمتص مقادير هائلة من الرأسمال.
لكن ذلك بدأ يتغير في مطلع عقد السبعينيات بعد أن تكبدت أميركا خسائر متزايدة بسبب مشروع فيتنام والإخفاق في كبح الإنفاق المحلي، فاجتمع العاملان ليخلقا أزمة مالية في الخزينة. وبادرت الحكومة الأميركية بطبع الأوراق المالية والنقود دون غطاء داعم لتغطية العجز في الموازنة فارتفع التضخم إلى حدود قياسية. وتزامن ذلك مع تعاظم قدرات الاقتصادين الألماني والياباني وتفوقهما في بعض القطاعات على اقتصاد أميركا لينتزعا منها صدارة الدول المنتجة. وقد قيل إن مبادرة العرب بقطع الإمدادات النفطية في عام 1973 عن الغرب كانت نقطة تحول أخرى. لكن أوراق التاريخ فضحت القصة وكشفت أن الحظر كان بتدبير سريع ارتجله الرئيس ريتشارد نيكسون بالتواطؤ مع إيران والسعودية فلحق الضرر الشديد باليابان وأوروبا بسبب اعتمادهما أكثر من أميركا على النفط العربي.
وبدأت أميركا عندئذ باستعراض قوتها المالية فتحكمت بدولارات النفط المودعة في بنوكها، وتوسعت في ذلك لتصل إلى عقد الاتفاقيات التجارية المدعمة بقروض من صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وبسياسات أخرى تجسدت ذروتها بـ(الليبرالية الجديدة) التي تؤكد على أهمية النمو الاقتصادي. وعلى الصعيد الداخلي، تحوّل ميزان القوة من القدرة الانتاجية إلى القدرة على الاستثمار والتحكم بحركة رأس المال. وتزامن ذلك مع التقدم في تنظيم الإنتاج ونمو تكنولوجيا المعلومات، فتهيأت الظروف لإقامة المجتمع العالمي الحالي ما بعد الصناعي وهو المتميز بالحجم الأصغر وبالاعتماد على التعاقدات من الباط