من قال إن التاريخ لا يعيد نفسه؟ بلى. ففي أرض العرب يعيد التاريخ نفسه ألف مرة ومرة. هل تذكرون الصديق العزيز هنري (الملقب بكيسنجر) وهو يُستقبل عند سلًّم الطائرات بالقبلات وفي الأحضان؟ بمرور الزمن ثبت، وحتى جزئياً من خلال كتاباته هو، كم مارس ذلك الصهيوني المتعجرف من صنوف الكذب والخداع والألاعيب لخدمة أهداف " إسرائيل ". ومن خلال حيله الكثيرة بدأ العد التنازلي لتصفية قضية فلسطين.
لكن هل تعلمنا شيئاً ؟ أبداً. فمن نفس العاصمة الشريرة جاء آخرون لعاصمة عربية أخرى وأقنعوا رئيسها بمحاولة تحطيم ثورة ناشئة في بلد إسلامي مهم، ثم أقنعوه باجتياح بلد عربي مسالم . ومن خلال حيل هؤلاء بدأ العد التنازلي لتصفية قضايا العرب القومية.
فهل تعلمنا شيئاً؟ أبداً. اليوم يتقاطر الوسطاء ويتسابق الرسل من ذات العاصمة ليساهموا في دفن الأحياء في مدن الجيتو الفلسطينية الجديدة، ويفرضوا تمزيق السودان الى أوصال، ويركعوا سوريا ولبنان، ويخترقوا ليبيا، ويستولوا على ثروات البترول، ويبنوا القواعد العسكرية في كل مكان. وهم إذ يفعلون كل ذلك يقابلون بالترحيب الحار كمصادر قوى لأمل المستقبل الذي سيأتي إلينا عبر المحيطات والبحار.
وتدلي القنوات الفضائية العربية " المستقلة " بدلوها. فما يظهر على شاشاتها إلا أولئك أو من يمثلوهم. أما أصحاب الضمير الحر والعقلاء من ساكني تلك العاصمة المسروقة فيركنوا على الرف. فباسم الحياد لا نسمع إلا صوت اليمين الأميركي الصهيوني المتطرف.
اليوم تستمر مسيرة قافلة إعادة التاريخ لنفسه، ولكن في الاقتصاد هذه المرة. بدلاً من كيسنجر وكلينتون وبوش وجنرالاتهم ومساعديهم يطل علينا هذه المرة بيل جيت، سيد مايكروسوفت، وأغنى أغنياء العالم. ومن جديد يبدو منظر الاستقبال المضحك ذاته وهو يكرر التاريخ، إذ يبدأ الحديث عن الطموحات والمعجزات التي ستتم على يديه لدخول العرب عصر ما بعد الحداثة تماماً كما وعدنا من قبل بعصر الرخاء الذي يأتي ولا يأتي. ولكن، كما لم ندرس خلفيات من تحدثنا إليهم سابقاً ووثقنا بنواياهم، يبدوا أننا سنفعل الأمر نفسه.
فهذا الرجل الذي وصفته منذ ثلاث سنين مجلة " الجمهورية الجديدة " الأميركية بالمخادع، وبأنه ينتمي إلى مدرسة أقتل أو تقتل، وبأنه مع أشباهه يحملون شعار " استولوا على الأسواق ودمروا المنافسين " وبأن وحشيته شديدة الفاعلية. هذا الرجل هو المؤمل فيه إدخال البلد الذي يستقبله استقبال الفاتحين نادي المستقبل المعلوماتي. وينسى هؤلاء أن عشرات الدعاوى مرفوعة في أميركا وأوروبا ضد شركته بسبب سياساتها الاحتكارية ومنافساتها غير المتكافئة وابتلاعها لكل الشركات الصغيرة حيثما تزحف.
نحن أمام ظاهرة محيرة: فلأن إرادتنا السياسية رخوة، ولأن قسماً كبيراً من المسؤولين عن تدبير أمورنا من الجهلة وممن يقرأون خارج العصر، ولأن من يحومون حول هؤلاء من الانتهازيين الطامعين في بقايا الفتات من طعام البلح. لأننا هكذا ندور في نفس الحلقة من الأخطاء مرات ومرات. فلا التاريخ يعلمنا ولا العقل يهدينا.
أم أن القضية برمتها لا صلة لها بالتاريخ ولا بالعقل، وإنما بعلة العلل: رموز السلطة والحظوة، الذين يعتقدون أن احترام الشعوب والمجتمع الدولي لا يُكتسب ألا من خلال أخذ الصور مع رموز السلطة القادمين من وراء الحجب؟