لا يمكن لأي بحث جاد في مجال حوار الثقافات أن يتجاهل موضوع العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وذلك لسبب بسيط مؤداه أن العولمة فى الوقت الراهن هي العملية التاريخية الكبرى التي تعيد تشكيل المجتمعات المعاصرة، لا فرق في ذلك بين الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية. غير أن ما يجمع بين المعالجات المتعددة للعولمة هو التركيز على سلبياتها، والتي ظهرت بوضوح كامل في العقد الأخير.
ولعل من أبرز هذه السلبيات أن العولمة - بالرغم من شعاراتها المرفوعة عن الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان– من شأنها في نظر الكثيرين من النقاد أن تؤدي إلى ظواهر عدم الاستقرار السياسي في عديد من البلاد النامية في العالم الثالث، نظرا لأن سياسة الليبرالية الجديدة ونزوعها المطلق تجاه حرية التجارة بالكامل، في ضوء سياسات الخصخصة من شأنها أن تحدث انقلابات اجتماعية لا حدود لها، من زاوية سقوط شرائح طبقية عديدة إلى عالم الفقر، نتيجة إغلاق المصانع غير القادرة على المنافسة العالمية وتسريح العمال. غير أنه بالإضافة إلى هذا العامل السياسي، هناك جوانب سلبية أخرى متعددة تتعلق بسيطرة الشركات المتعددة الجنسيات على مجمل الاقتصاد العالمي، وقدرتها على سحق المنافسين الصغار، سواء على مستوى الشركات الوطنية في العالم الثالث، أو حتى على مستوى الدول في سعيها للدخول بكفاءة في عالم المنافسة العالمية. ذلك أن هذه الشركات المتعددة الجنسيات مدعومة بسياسات الحكومات التي تنتمي لها كالشركات الأميركية، تتبنى إيديولوجية العولمة وليس فقط سياساتها وإجراءاتها. وإيديولوجية العولمة هي بكل بساطة "البقاء للأصلح"، وهو الشعار الذي صاغه مذهب الداروينية الاجتماعية منذ قديم لتبرير الاستغلال الرأسمالى في الدول الرأسمالية العريقة كالولايات المتحدة الأميركية.
وبالإضافة إلى السياسة والاقتصاد رصدت سلبيات متعددة للعولمة في مجال التأثير على الهويات الثقافية في العالم الثالث. والسؤال المطروح هنا هل تنجح العولمة من خلال البث التليفزيوني الفضائي وشبكة الإنترنت بما تزخر به من مواقع، وما تبثه من رسائل في محو المعالم البارزة للهويات الثقافية المتميزة لعديد من مجتمعات العالم الثالث؟
وإذا تتبعنا ردود أفعال المثقفين في عديد من البلاد النامية وفي مقدمتها البلاد العربية، لاكتشفنا سيادة خطاب إعلامي وثقافي يهول من الغزو الثقافي القادم من خلال موجات العولمة المتدفقة، وينتقد ما يطلق عليه التبعية الثقافية للغرب، مما يهدد الخصوصية الثقافية.
غير أن الحملات المناهضة للعولمة لا تقف فقط عن حدود النقد السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، ولكنها تركز في المقام الأول على نقد الاتجاه الرئيسي للعولمة ذاتها، والتي هي في نظر عديد من هذه الحملات النزعة الرأسمالية المتطرفة، والتي لا تبحث سوى عن الربح الفاحش، حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بالبيئة الإنسانية، أو أثر على مصير ملايين البشر الذين يدفعون دفعا – نتيجة سياساتها الاقتصادية – إلى ما تحت خط الفقر.
ولعل خير ما يعبر عن قوة واتساع الحركات المناهضة للعولمة هو المنتدى الاجتماعي العالمي الذي تأسس في البرازيل ونظم في بورتو الليجيري ثلاثة مؤتمرات عالمية حاشدة. وإذا كانت العولمة قد أسست منتداها الخاص في دافوس والذي يجمع سنويا مئات من ممثلي الرأسمالية العالمية ورؤساء الدول والإعلاميين والمثقفين يناقش من خلال ندوات متعددة وورش عمل عشرات الموضوع التي تتعلق ببسط نطاق العولمة حتى تشمل كل آفاق قارات العالم المختلفة، ولكي تنفذ إلى أعماق المجتمعات الإنسانية المعاصرة في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، فإن القوى المناهضة للعولمة قد أسست حركة مضادة لدافوس والتي تتمثل في المنتدى الاجتماعي العالمي.
ومما يبرز مدى قوة واتساع الحركات المناهضة للعولمة المؤتمر العالمي الذي عقد عام 2003 في بورتوالليجيري وحضره مائة ألف مشارك، واستمر ستة أيام كاملة، في نفس الوقت الذي عقد فيه منتدى دافوس جلساته.
وهذا المنتدى الذي يشارك في أعماله كل أطياف اليسار العالمي وممثلون بارزون للمجتمع المدني العالمي من كل الاتجاهات، لا يركز فقط على سلبيات العولمة الاقتصادية، ولكنه يركز أيضاً على أهمية حل الصراعات الدولية بالوسائل السلمية. وتأكيدا لذلك قام أعضاء المنتدى الاجتماعي العالمي وهم بالآلاف بمسيرة حاشدة للتعبير عن معارضتهم للحرب الأميركية ضد العراق، قبل أن يجتمعوا ليركزوا مناقشاتهم على التجاوزات الخطيرة التي تمارسها الرأسمالية في ظل سياسات العولمة.
ثورة من أجل العدالة
وليس هناك من شك في أنه يقع في قلب مداولات المنتدى الاجتماعي العالمي السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية ليس داخل كل مجتمع معاصر فقط، ولكن على الصعيد العالمي، من خلال الضغط لتغيير سياسات العولمة الاقتصادية، وخصوصا تلك التي تتضمنها معاهدة منظمة التجارة العالمية.
ونحن نكتب هذا المقال يجتمع في بومباي باله