هناك إجماع اليوم داخل الرأي العام العربي على الإصلاح. لكن الخلاف قائم حول طبيعة الإصلاح ومنهجه وأهدافه. فالفئات الحاكمة التي تمثل أصحاب المصالح في استمرار النظم القائمة والإبقاء عليها تعتقد أن جوهر الإصلاح الديمقراطي المطلوب هو تغيير قواعد العمل الاقتصادية بالانفتاح على اقتصاد السوق أو تعزيز هذا الانفتاح وتشجيع القطاع الخاص من جهة وتحديث الإدارة ومعالجة عيوبها العديدة والمتراكمة منذ عقود من جهة ثانية. والمنهج الوحيد الذي تعتقد أنه يصلح لمثل هذا الإصلاح هو منهج التدرج والبطء. فالتقدم بخطى بطيئة كما ذكر رئيس الجمهورية السورية في لقاءات صحفية متعددة أفضل من الوقوع في أخطاء لا يمكن التراجع عنها أو سيكون لها تكاليف باهظة. أما الهدف من الإصلاح فهو رفع مستوى معيشة السكان وتحسين أحوالهم وربما تحديث الخدمات الاجتماعية. وتعتقد السلطات القائمة أيضا بأن الأحزاب الحاكمة، وبعضها منذ نصف قرن إذا صرفنا النظر عن تغيير الاسم، هو الأقدر على إدارة هذه العملية الإصلاحية وقيادتها. فهي الأكثر تجذرا في التربة الوطنية والأكثر انتشارا والأكثر خبرة ودراية بأحوال سكانها وطبقاتها. ولا يمنع تأكيد قيادة الأحزاب الحاكمة لهذه العملية من تطعيم الحكم والإدارة بعناصر وإطارات فنية لا حزبية متى ما أثبتت جدارتها وضمن ولاؤها للحكم والنظام. كما لا يمنع أيضا من توسيع دائرة الاعتماد على إطارات خارجية مهجرية أو فنية أجنبية تبدو وكأنها تصبح موضع مراهنة متزايدة عند الحكومات لتحديث الإدارة الاقتصادية والمدنية والرد على انتقادات الدول الصناعية التي تعرض نفسها كشريكة رئيسية في هذه العملية الإصلاحية سواء أكانت أوروبية أم أميركية.
وفي مقابل هذا المشروع الذي يمكن اختصاره بمشروع الإصلاح من داخل النظام القائم وبالحفاظ وللحفاظ عليه معا، أي على المصالح الكبرى والأساسية التي يخدمها وتشكل قاعدته الاجتماعية وعلى التوازنات السياسية والعصبوية والمناطقية والعقائدية التي يقوم عليها ويضمن من خلالها استقراره النسبي وإعادة إنتاجه، تطرح بعض الحركات والمنظمات الديمقراطية والحقوقية مشروعا آخر للإصلاح يمكن أن نطلق عليه اسم الإصلاح الديمقراطي. وتعتقد جميع القوى العربية المنتمية لهذا التيار بأن ما وصل إليه الوضع العربي من تدهور في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والوطنية لم يكن ضرورة حتمية لتغير الظروف الدولية وإنما هو النتيجة الطبيعية لفساد نظام السيطرة السياسية المطلقة والأحادية، ولاحتكار السلطة المديد من قبل حزب واحد وفئات واحدة لا تتغير حتى لو نجحت بعض النظم في وضع واجهات تعددية شكلية. وإن هدف الإصلاح الرئيسي هو معالجة هذا الفساد والخروج من نظام السلطة المطلقة المحتكرة لحزب أو لفريق واحد وإطلاق الحياة السياسية والفكرية التي تتوقف عليها إعادة بناء روح المسؤولية العمومية وتكوين قوى سياسية واجتماعية وأطر قيادية جديدة تستطيع أن تحمل بشكل أفضل عبء التحديات المتزايدة الاقتصادية والوطنية والاجتماعية التي تتعرض لها الشعوب العربية. أما استمرار الرهان على القوى نفسها التي تمثلها النظم والتي قادت البلاد إلى الطريق المسدود فلا يمكن أن يؤدي إلا إلى المزيد من تدهور موقف العرب الداخلي والخارجي وربما إلى انهيارات يصعب التحكم بعواقبها السلبية.
ويستدعي هذا الإصلاح منهجا جدياً وجريئاً يقطع العلاقة مع نظام الفساد والمحسوبية والتغطية على المصاعب والمشاكل الفعلية ويجعل مسألة الإصلاح قضية كل فرد ومواطن. فإظهار إرادة تغيير حاسمة وجدية هو شرط لوقف آلية التدهور المتزايد وكسر شوكة شبكات المصالح المافيوية التي حولت الدول إلى مزارع شخصية ولإعادة ثقة المجتمع بدولته ونفسه وإطلاق روح تجديد وابتكار حقيقية على جميع مستويات الهيئة الاجتماعية. أما الإصرار على تحقيق الإصلاح من ضمن توازنات المصالح القائمة ومن داخل النظام ولصالح تكريسه، وهو اليوم نظام الامتيازات الخاصة والمحسوبية والزبائنية بامتياز، فلن يقود إلا إلى خنق مشروع الإصلاح في المهد، وفي أفضل الاحتمالات الاقتصار على تزويق المنظر الخارجي وتطعيم الأجهزة الإدارية والحكومية ببعض الشخصيات المدنية الخارجية. مما يعني المخاطرة باستمرار حالة التسيب الفعلي وتضييع المزيد من الوقت الثمين على البلاد وترك الأمور تسير بشكل أكبر نحو التعفن وتفاقم الأزمة.
وفي هذه الحالة لن يكون هدف الإصلاح صبغ النظام الراهن بصبغة مدنية أو تعددية أو تقديم رشوات استثنائية للعاملين بحلول المناسبات الوطنية ولكن تغيير قواعد عمل النظام المجتمعي بأكمله وإخراج المجتمع من سباته وعطالته والحد من النزيف المادي والبشري الذي جعل البلاد العربية من أكثر دول العالم تصديرا للرساميل والكوادر البشرية إلى الخارج وتأكيد حقوق المواطنين في وطنهم وانتمائهم له وتعلقهم به. إن الهدف هو استعادة المواطنين لمواطنيتهم التي هي شرط وأساس إحياء كل القواعد والقوانين والنظم السياسية والأخلاق الجمعية والمد