من المعلوم أن هناك مناقشات دائرة حول السجن الأميركي في خليج غوانتانامو في كوبا، لكنها مناقشات تغيب فيها تلك الدروس والعبر التي تقدمها المحاولة السابقة الوحيدة التي قامت فيها أميركا بسجن مخربين أجانب مشتبه بهم تم القبض عليهم خارج الحدود الأميركية في معسكرات خاصة لا تطالها سلطة المحاكم. وقد أدى نبذ المبادئ القانونية آنذاك، كما اليوم، إلى الظلم وإضعاف التأييد الذي تحظى به الولايات المتحدة في الخارج. ومع انضمام المحكمة العليا إلى دائرة الخلاف والنزاع الدائر الآن، يقدم لنا تذكر أخطاء الماضي نظرة عميقة في واقع المسألة الحاضرة.
في السابقة المذكورة كان الهدف مهاجرين ألمانا تم اعتقالهم ونقلهم من أميركا اللاتينية. ففي الحرب العالمية الثانية، قامت الحكومة الأميركية بالقبض على أكثر من 4000 ألماني وألمانية يعيشون في 15 بلداً من البلدان الواقعة جنوب نهر ريو غراندي، ثم أدخلتهم إلى ولاية تكساس. لقد نسي الناس منذ زمن بعيد هذه الوقائع التي جرت في فترة تميزت بوجود أزمة أمنية حقيقية، غير أنها حالة قدمت دليلاً واضحاً على اللامبالاة بالقيم الأميركية الأساسية التي برهنت على أنها غير فاعلة. وقد تم إنهاء الأزمة في آخر المطاف في قاعات المحاكم الفيدرالية- ولأسباب مازالت وثيقة الصلة بالموضوع المطروح الآن.
وكشأن السجناء المحتجزين اليوم في معسكر دلتا في غوانتانامو، لم يكن لدى أولئك سجناء تكساس الألمان محامون للدفاع عنهم ولم تتم محاكمتهم في المحاكم ولا كان من حقهم استئناف الأحكام الصادرة بحقهم. غير أن مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) أفاد بعد الحرب بأن لديه أدلّة على التورط في التجسس تدين 8 فقط من السجناء الألمان الذين بلغ عددهم أكثر من 4000 سجين. وكان قادة معسكر الاعتقال يتوقعون أنهم يحتجزون مخربين أشداء، لكنهم وجدوا أن سجناءهم ليسوا أكثر من مزارعين عاديين ورجال طاعنين في السن وعائلات بأكملها من طبقة الناس العاديين. ومن بين كل عشرة من السجناء، كان هناك واحد فقط ينتمي إلى الحزب النازي فعلاً. ولذا كان من المنطقي والمبرر أن يتم إخضاع النازيين للمراقبة والرصد.
لكن المسؤولين الأميركيين الذين لم يألفوا أميركا اللاتينية ولم يتعودوا عليها، واجهوا أوقاتاً عصيبة في معرفة الأشخاص الذين يشكلون خطراً وتهديداً، شأنهم في ذلك شأن الشباب الأميركيين الذين طاردوا أعضاء حركة طالبان في أفغانستان. فكيف تسنى لشبكة برنامج أمني أن توقع بهذا العدد الكبير من الأشخاص الخطأ؟
عندما يستمع قضاة المحكمة العليا ذات يوم إلى الحجج المعنية بقضية سجناء معسكر غوانتانامو،فإنهم سيسمعون فيها صدى البرنامج الأمني السابق، إذ أن الادعاءات الأميركية القادمة من الميدان الأفغاني تزعم أن السجناء أبرياء أوقع بهم صيادو الجوائز وسلّموهم إلى الأميركيين. وفي الحرب العالمية الثانية، كان عملاء الاستخبارات الأميركية العاملون في أميركا اللاتينية يدفعون مبلغاً قدره 50 دولاراً إلى أي شخص يقوم بالإبلاغ عن شخص نازي. ولذلك أدى توزيع الأميركيين للنقود في الحالتين الحاضرة والماضية، في مقابل إبلاغات كتلك، إلى استقطاب المتطوعين الذين انعدم لديهم الوازع والضمير.
وهنا تخطر ذكريات الماضي على ذهن راياموند دبليو إيكيز المسؤول السابق في وزارة العدل الأميركية، والذي سافر في عام 1943 إلى 18 بلداً من بلدان أميركا اللاتينية لإجراء التحقيقات في العملية. وقال إيكيز إن معظم عملاء الاستخبارات كانوا لا يتحدثون باللغة الإسبانية ولا باللغة الألمانية، ولذلك (كان من الممكن للسكان المحليين أن يفلتوا من أي عقاب.) ويصرّ إيكيز على أن نتيجة ذلك كانت أن معظم السجناء الألمان كانوا محتجزين في الولايات المتحدة دون أية أسباب موجبة.
وما زالت هناك حالات قصور من هذا النوع في الممارسات التحقيقية الجارية في أفغانستان، حيث قام الجنرال عبد الرشيد دوستم بتسليم الشباب الذين اعتبر أنهم (من طالبان) وحصل في مقابل ذلك على مبالغ نقدية من الأميركيين؛ ولم يكن في وسع العملاء الأميركيين أن يتحققوا من صدق وصحة مزاعمه تلك.
وكشأن معسكر دلتا الذي تم إنشاؤه في خليج غوانتانامو في البحر الكاريبي، تم إخراج معسكرات الاعتقال التي أقيمت في ولاية تكساس، من دائرة النظام القانوني والقضائي، وذلك باتباع حيلة ذكية. فعندما وصل المعتقلون الألمان من أميركا اللاتينية إلى أراضي الولايات المتحدة، طلب منهم ضابط دائرة الهجرة إبراز تأشيرات الدخول. وقد أصيب كل واحد من أولئك الأسرى بالذهول والمفاجأة من طلب التأشيرات، وكان لسان حالهم يقول :أية تأشيرات؟ لقد تعرضنا للاختطاف! بعدئذ تم إبلاغ كل أسير حسب الأصول والقواعد المرعية بأن دخوله غير القانوني إلى الولايات المتحدة قد جعله خاضعاً للاحتجاز. أعني الاحتجاز إلى أجل غير مسمى. لكن خدعة من ذلك النوع تجعل أي برنامج للاعتقال عرضة للتحديات القانونية.
وقد تم تجاهل احتجاجات بلدان أميركا اللاتينية في الأربعينيات مثلما يتم تجاهل الا