قبول الآخر فكراً, ثقافة نحتاج إليها وإلى زرعها في وجدان أطفالنا وهدم كل ما يمكن أن يقف عائقاً أمامها من ذاكرة كل المتسلطين. وتأصيل هذه الثقافة يحتاج إلى جهود من قبل هيئات مختلفة من أهمها البيت والمدرسة والمسجد والنادي والسلطة السياسية التي يجب أن تدرك أن بقاءها مرهون بقدرتها على تقبل النقد وقبول الآخر في سفينة الوطن المبحرة نحو المستقبل مهما اختلفت الرؤى وتنافرت الطروحات، فالتراكم في ثقافة قبول الآخر يحتاج إلى قدر كبير من المران وإنكار الذات والثقة بالنفس ومنح الآخرين الفرصة للتعبير عن الرأي والمشاركة.
وقف رئيس دولة عربية في وسط الملعب الرياضي وهو يزور مدينة جامعية، كان استاد الملعب غاصاً بجموع الطلاب وهم على موعد مع الرئيس، وما أن وقف سيادته على المنصة ملوحاً بالعصا الشهيرة التي كان يحملها في يده اليمنى إلا وساد الصمت وبدأ الرئيس خطبة عصماء تناولت مفاهيم الحرية وترسيخ الديمقراطية وأهمية المشاركة في صناعة الوطن وبناء المستقبل, بينما كانت قلوب الشباب تخفق فرحاً لهذه التوجهات التي يطلقها الرئيس وهم يشاهدونه بشراً مثلهم بدون حجاب أو بطانة أو عبر شاشات التلفزة التي كانت تخصص نصف وقت إرسالها لمتابعة الرئيس في جولاته ولقاءاته، والتهبت أكف المتلقين بعد كل عبارة كانت تنطلق, وكان التصفيق يتم بإيعاز من أحدهم يرسل بإشارات من مكمن خفي، المهم أن الرئيس أعطى الشباب دروساً في شفافية الحوار وصدق الطرح. وفي نهاية الخطبة تمنى الرئيس على أبنائه مشاركته في طرح الأسئلة والتعليقات والمداخلات دون خوف أو وجل. صمت الجميع تقريباً وران على الملعب الفسيح صمت كان أشبه بصمت القبور نتيجة لذلك الخوف الفطري الذي زرع في نفوس الحضور ليس من لحظة اللقاء الأولى ولكن من لحظة صرخة الميلاد, حيث يلقن المواطن العربي حكمة مفادها إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب، ولسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك، وهي عبارات قمعية لا يراد بها تحقيق توجه تربوي أخلاقي بقدر ما يراد بها خلق حالة من الخوف والتقريع وتوقع النتائج المؤلمة لممارسة خطيئة إخراج اللسان من مكمنه وتوجيهه ليقول كلمة حق. المهم أن الجميع صمت إلا (حسين) الشاب الأسمر النحيل الذي رفع يده طالباً الكلمة، انتفض الرئيس حتى اهتزت نياشينه التي كانت تغطي نصف صدره أو أكثر، وبابتسامة باهتة منح حسين حق الكلام وأعطي حسين إشارة الأمان من شخص مفتول العضلات كان يقف في زاوية قبالة منصة الرئيس، قال حسين: سيدي الرئيس لقد وعدتنا بالكثير من الذي قد لا نستحق, ولكنني أرجوك أن تلبي مطالبنا كشباب بمواصلة نهجك في تحقيق مجانية التعليم الجامعي لا سيما وأن أكثرنا هم من أبناء رفاقك في معركة محاربة المستعمر، أولئك الشهداء الذين منحوا الوطن عمرهم لنكبر فيه رافعي الرأس فخورين بثورتنا، وأرجوك سيدي الرئيس إصدار أمرك بضرورة إبقاء مجانية الخدمات الصحية وتوفير الدواء للكثير من المعوزين ولا تنسى سيدي الرئيس مدن الصفيح التي تلف المدن الكبرى في جمهوريتنا الغنية بثرواتها النفطية والزراعية وخاصة المدن التي تسكنها أرامل الشهداء وكثير من مناضلات الحزب. وأردف حسين طلبه برجاء للرئيس بفتح أبواب زنزانات السجون لإطلاق سراح عشرات الآلاف من سجناء الفكر والمعارضين السياسيين والأدباء والمسرحيين والفنانين التشكيليين والمطربين. استمع الرئيس إلى مطالب حسين بينما كانت كاميرات التلفزيون وميكرفونات الإذاعة تسجل كل كلمة وطرفة عين وتحصي على حسين آهاته وعدد مرات تنفسه، التهبت الأكف مرة ثانية لتعبر عن امتنانها لسعة صدر الرئيس وروحه التواقة للحوار، وقبول الرأي الآخر. وودع الرئيس بأمل في القلوب بأن تتحقق أمنيات حسين وهي بالطبع أمنيات كل من حضر هذا اللقاء، وخرس عن البوح بمكنون ما في الصدر خوفاً من بطش السلطان.
كان اللقاء المفتوح للرئيس حديث العامة والخاصة لأكثر من ستة أشهر ذلك اللقاء العفوي والذي دار بمشاعر أبوية بين الرئيس والشباب.
مرت الأيام سريعة وحان اللقاء المرتقب في موعده المقرر سلفاً في عام جديد, وسيق الطلاب إلى الملعب، وحانت لحظة لقاء الرئيس بعد اثني عشر شهراً من اللقاء السابق. وبدأ الرئيس حديثه وكأنه يواصل خطبته السابقة معدداً المناقب وتحدث عن الثورة وانجازاتها ووووووووووووو، وفي نهاية الحديث صدرت الإشارة إلى الجموع للبدء بالتصفيق, وفتح الرئيس باب المطالب والحوارات وحدث إذ ذاك ما لم يكن في الحسبان، وقف الشباب إناثا وذكورا من فوق مدرجات الملعب وهتفوا بصوت واحد سيدي الرئيس ليست لدينا مطالب شخصية, ولكننا نطلب فقط بإخراج (حسين) من السجن!!!!
القصة على رمزيتها وسخريتها الحارقة والمؤلمة تجسد حالة عربية تبدو متجذرة في ثقافة الحوار وكيفية التعامل معها.
تابع معي عزيزي القارئ بعض الفضائيات العربية التي تحاول إنتاج خطاب إعلامي عربي تقول عنه خطابا جديدا يفتح آفاقاً واسعة لطرح الرأي والرأي المضاد!!ويمنح الجميع فرصة للتنفيس عن المحقون في الروح العربية من إحباطات