لقد وجهت الانتقادات للحملات الانتخابية الرئاسية الأميركية بسبب استمرارها لمدة أطول مما ينبغي. فقد انطلقت منذ عام ونصف العام, قبل حلول موعد المعركة الانتخابية الفعلية. وإذا كان ذلك هو حال أميركا, فإن الأمر أسوأ منه بكثير, هنا في فرنسا التي لا يتوقف فيها الصراع على المنصب الرئاسي لحظة. فعندما يستمر هذا الصراع في مواسم وسنوات ليست انتخابية أصلا, فإن ذلك يدخل في باب السرية والمواربة, إلى جانب السيطرة خلسة على مواقع القوة السياسية. ثم إنها كثيرا ما أصبحت نوعا من أنواع الاغتيال المستتر والسري. فلا شيء يطفو للسطح ويبدو واضحا للعيان, قبل الافتتاح الرسمي للحملة الانتخابية. وللعلم فإن الافتتاح الرسمي للانتخابات لا يتم عادة إلا قبل أسابيع معدودة من موعد الاقتراع.
وقد كان هذا التستر مهما في الفترة التي تمتد فيها الدورة الرئاسية للرئيس الفرنسي لسبعة أعوام, أو حتى لمدة أربعة عشر عاما في بعض الأحيان. وفي مثل هذه الحالات, فإن الزمن المتاح للمناورة السياسية الانتخابية يكون كبيرا جدا.
أما حاليا, فقد اقتصرت المدة الرئاسية لخمس سنوات فحسب. وعليه فقد كان الرئيس الحالي جاك شيراك قد انتخب لمنصبه الحالي في عام 2002, مما يعني أن العام 2007 سوف يشهد حملة رئاسية جديدة. وقد أسفر هذا الارتفاع في درجات الترمومتر السياسي عن نتائج لم تكن متوقعة ولا في الحسبان. بين هذه النتائج إن وزير داخلية شيراك, وعضو حزبه نيكولاس ساركوزي, يقود الآن حملة علنية يسعى من خلالها للفوز بالمنصب الرئاسي. فلم تبدر بادرة واحدة من ساركوزي, تنم عن تأييده لاحتمال ترشيح الرئيس الحالي جاك شيراك لدورة رئاسية جديدة. أما إعلان ساركوزي رغبته في الترشح للمنصب الرئاسي, فقد تم الاكتفاء ببضع كلمات مقتضبة, تلمح إلى هذه الرغبة. جاء ذلك خلال لقاء إذاعي أجري معه في لحظة كان منشغلا فيها بحلاقة لحيته. كان موضوع السؤال هو ما إذا كان قد فكر في أن يصبح رئيسا لجمهورية فرنسا؟ فجاءت إجابته قصيرة مقتضبة كما قلنا: ليس في هذه اللحظة على أية حال. ثم تلا ذلك زيارته مؤخرا للصين, في إطار محادثات أجراها فيما يبدو, بصفته الوزارية الحالية. وعلى رغم هذه الصفة, فقد تمكن من مقابلة الرئيس الصيني, ووجه له سؤالا مباغتا حول كيف كان شعوره تجاه مقابلته للرجل الثاني وقد حل محل الرجل الأول؟ الإشارة هنا هي أن ساركوزي يأتي في المرتبة الثانية بعد رئيس الوزراء الفرنسي.
ومن ضمن ما ألمح إليه ساركوزي أن الرئيس جاك شيراك قد تقدم به العمر, بما لا يجعله ملائما للترشح لدورة رئاسية أخرى. كما أكد أنه ربما يكون الوقت قد حان لإصدار تشريعات تمنع الترشح للمنصب الرئاسي للمرة الثالثة في البلاد.
كما ورد في تصريحات صحفية له أيضا أن اهتمام الرئيس الفرنسي الطويل الأمد باليابان, له صلة ما, بحبه لمصارعة السومو اليابانية. وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده بمناسبة حلول العام الجديد, قال ساركوزي ما لم يطلبه منه أحد. فقد استهجن شغف الرئيس بهذه الرياضة الغريبة الخالية من أي لمسة فكرية أو ثقافية. ويشي بعض ما جاء من أقواله في المؤتمر نفسه, بما يفهم منه أنه مقاطع من بيان سياسي. من ذلك مثلا قوله: لنكافئ أولئك الذين يأخذون بزمام المبادرة. وعلى فرنسا أن تكف عن الخوف. ذلك أن في مقدور الدولة الواثقة وحدها أن تحقق التغيير المنشود. وأعرب ساركوزي عن رغبته في حشد فئات وأفراد من خارج دائرة حزبه, كي يسهموا ويلقوا على عاتقهم بمسؤولية التغيير هذه.
هذا ويكمن نجاح ساركوزي في مدى ما حققه من شعبية خلال توليه لمنصب وزير الداخلية. فالمعروف عن وزير الداخلية أنه مسؤول عن الأمن, ولذلك فهو موجود في كل مكان تقريبا. فهو في طواف وزيارات مستمرة لقوات الشرطة في مختلف المواقع. كما يقوم بزيارات منتظمة لشركات الإطفاء ومكافحة الحرائق. كما أنه أصبح وجها مألوفا في كافة المناسبات مثل احتفالات رأس السنة وغيرها. أما في حالات الطوارئ, فهو دائما وسط قواته, يقدم لها الدعم والقيادة ويحفزها على خدمة الجمهور وطمأنته. ضمن ذلك, فقد شجع قوات الشرطة على العمل ليل نهار في سبيل خفض معدلات الجريمة والجنح بوجه عام. وقد تحقق له ذلك بالفعل حسبما تفيد الإحصاءات والتقارير.
بل إن ساركوزي قد أجاز تشريعا يقضي بمنح حقوق إضافية خاصة للمهاجرين من شمال إفريقيا, فضلا عن دفعه وتشجيعه للمسلمين على تنظيم أنفسهم على المستوى القومي العام, وإقامة حوار بناء ومثمر لصالحهم مع الحكومة. ويعد تصديه للمشكلة الأمنية المزمنة في كورسيكا, أحد أبرز إنجازاته المهنية على الإطلاق. إجمالا, فقد أسفرت كل هذه الديناميكية والحيوية عن نشوء قناعة راسخة لدى رجل الشارع والمواطن العادي بأن وزير داخليته, يهتم ويسهر ليل نهار على أمنه وطمأنينته.
نتيجة لكل ذلك, فقد أصبح ساركوزي ألمع وجوه الحكومة الفرنسية وأشهر رموزها قاطبة. فقد تمكن من إقصاء رئيس الوزراء من الصفحات الأولى للصحف الفرنسية. ومن جانبه كان رد هذا الأخير ساخرا ومعبرا عن