قد يبدو الحديث في هذه المسألة أمراً مثيراً، بالاعتبارين التاريخي والمعرفي. إذ كيف يمكن عقد مقارنة بين ظاهرتين تتحدران من مرحلتين مختلفتين في الانتماء الزمني التاريخي وفي الانتماء الحضاري: الأولى- الأصولية الدينية الراهنة التي تعلن أن مرجعيتها تعود إلى القرن السابع، والثانية- العولمة التي تبشر بأنها أتت في آخر الزمان خلاصاً للبشرية؛ الأولى التي تقترن بالحضارة الإسلامية العربية، والثانية ذات الانتماء الأوروبي الأميركي. إن هذا التساؤل يمكن الإجابة عليه بتحليل الظاهرتين في نقاط حاسمة لعلها تسمح لنا بالوصول إلى نقاط مشتركة.
فالأصولية (وهي هنا إحدى القراءات الدينية في الفكر الإسلامي) ترى أن التاريخ (الحقيقي) يبدأ بالقرن السابع وينتهي به. أما ما سبق هذا التاريخ فلم يكن إلا تطلعاً وتشوفاً إليه، في حين أن ما أتى بعده حتى قرننا هذا الحادي والعشرين ليس إلا انحرافاً أو، كما يقول سيد قطب ليس إلا( جاهلية جديدة)، قياساً على الجاهلية القديمة. ومن ثم، فإن (نهاية التاريخ) ظهرت مع (بدايته). وعلى البشرية، بالتالي، أن تكافح من أجل العودة إلى تلك البداية، بحيث يتحقق المبدأ الأصولي التالي: الأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف!
أما العولمة فقد أعلن منظروها إذ بدأت بأنها تمثل نهاية التاريخ، وبأنها قمته وخلاصه اللذان يجبّان ما سبقهما. وفوكوياما هنا، على عكس سيد قطب ينطلق مما يعتبره نهاية التاريخ؛ مما يضع يدنا على المشترك بينهما وهو كونهما ينظران إلى موضوعهما بوصفه فوق التاريخ العمومي العادي• وانطلاقاً من هذه النزعة اللا تاريخية، التي من شأنها -كما هو بيّن- أن تجعل التاريخ (مُستفرداً) لصالح فريق معين، نكون وجهاً لوجه أمام إنكار الظاهرتين كلتيهما (الأصولية والعولمة) لمبدأ(شرعية التعددية) بشتى حقولها ومرجعياتها: الثقافية والحضارية والفكرية والحزبية والقومية وغيرها. فالأولى لا تُقر بغيرها إلا بمثابة (غير شرعي)، في حين تعلن الثانية أن (الآخر) لا يدخل في حقلها؛ مع الإشارة إلى أن هاتين كلتيهما تعطي إنكارها لمبدأ (شرعية التعددية) ذاك طابعاً أخلاقياً، بحيث يصير (حكم قيمة). وحينئذ تنظران إلى (الآخر) على أنه (كافر- بالنسبة إلى الأصولية)، و(شرير- بالنسبة إلى العولمة). وهكذا نغدو أمام ثنائية المؤمن والكافر، والخير والشر، مع الإشارة إلى أن رفض(الآخر) في كلتا الظاهرتين لا يتوقف على من هم خارج حقليهما (الدين والعولمة)، وإنما يتصل بمن يعارضهما في النسق الواحد نفسه ومن داخله.
وعلى هذه الطريق، تصبح الحقيقة حِكراً عليهما، كل واحدة حسب مرجعيتها، الدينية والعولمة: منْ لا يتبعنا في مذهبيتنا أو مشيختنا، فهو كافر (في الأصولية)؛ ونحن أمام خيارين اثنين، إما نحن وإما الآخر (في العولمة)، أو -قياساً على ذلك- إما الخير، وإما الشر! وفي سبيل التأسيس لهذه الثنائيات القطعية، يمكن بذل الغالي والرخيص، حتى لو أدى الأمر إلى إعلان (الحرب - الجهاد) ضد العالم برمته، وأي ضد (دار الحرب-الأصولية)، وضد (عالم الإرهاب-العولمة).
وإذا كانت الأصولية الراهنة في الإسلام السياسي تَعد مريديها -عبر مذهبيتها أو مشيختها- بعالم (الدّارين)، فإن رؤوس العولمة تقدم لأتباعها وأنصارها (السوق الكونية السلعية). وفي كلتا الحالتين، يتعين على المريدين والأتباع والأنصار أن يثقوا ثقة تامة في (القائمين على الدّارين)، وفي بُناة عالم (الحرية والديمقراطية). وإذا لم يفوّضوا أمرهم لأولئك ولم يرضخوا للآخرين، فإن التكفير أو إعلان الحرب هما النتيجة (الشرعية) و(الدولية) للخارجين والعصاة.
إنها طرافة هائلة الدلالة أن تلتقي تينك الظاهرتان في تلك المشتركات. أما في الحالة الأولى، فإن الإسلام الذي أتى هدى للناس ودعوة للتفكر العقلي وللحرية التي تقر بمبدأ التعددية واحترامها في حدود التسامح والتعقل، لا يمكن أن يقر بالقسر والإرغام والإرهاب. لكننا في الحالة الثانية، نواجه أخطبوطاً فظيعاً يريد أن يجعل من العالم برمته امتداداً له، يهيمن عليه ويحول شعوبه إلى عبيد يُشبعون جشعه ونهمه، اللذين لا حدّ لهما.
تلك ملاحظات تتصل بما يتقاطع فيه الفريقان المعنيان على صعيد البنية السياسية والسيوثقافية.