نقل السلطة من الأميركيين إلى العراقيين استحقاق كبير وبالغ الدقة والحساسية. بديهي أنه يتطلب إرادة صادقة لدى قوة الاحتلال، لكن نجاحه يتوقف أيضاً على استعداد أبناء العراق وأهليتهم لهذه المهمة التاريخية. الأمر يشبه إلى حد كبير إعادة تأسيس البلد، كما قبل نحو قرن من الزمن، ما يعني أن قرناً مضى كأنه لم يكن، أو لم يبق منه سوى أن نحو 25 مليون إنسان يعتبرون أنفسهم عراقيين. لكن في أي عراق وأين، وكيف؟ السؤال مطروح بقوة، ويجدر القول إن محاولات الإجابة لم تبدأ بعد، أو هي كامنة، أو إنها مكشوفة كما في حال الأكراد الذين يسعون إلى استباق الدوامة ببلورة صيغة الفيدرالية التي باتوا يطرحونها كـ"شرط" لوجودهم في الجسم العراقي الجديد، ولو من دون أن تكون لديهم خيارات أخرى حقيقية أو قابلة للتطبيق.
إعادة التأسيس تصطدم بعاهات الولادة التي تمت في ظروف ومعطيات مختلفة جداً عن الواقع الراهن، عصراً وتجربة وإمكانات. لم يكن العراقيون حين ولد بلدهم وأسست دولتهم يجهلون تعدديتهم ولكن الآن أكثر إدراكاً لها وأكثر اضطراراً لاحترامها. فالكل اكتوى بنار الحقبة السابقة، مَن كان خاسراً ومحبطاً ومضطهداً ومَن ظن أنه رابح ومتربع ومتمتع. لذلك فإن التأسيس الجديد يتهيأ ليشهد رابحين وخاسرين جددا، إلا أن خطوة اللعبة تفترض ألا ينسى أحد أن المطلوب في النهاية بناء وطن للجميع ودولة للجميع، وإلا فإن الجميع سيخسر حتى لو حصل على ما يديم نفوذه وامتيازاته. أي أن التحدي الحقيقي ليس مجرد نقل السلطة، وإنما إقامة سلطة لا يشعر إزاءها المحتل إلا أنه مضطر للانكفاء.
الواقع الراهن لا يمهد فعلاً لمجيء هذه السلطة القوية التي تنهي الاحتلال. فكما أن العمليات الحربية ضد الاحتلال لم تتحول ولن تستطيع أن تتحول إلى "مقاومة وطنية" تجمع كل مكونات الشعب والمجتمع، كذلك تبدو الفئات المتعايشة مع الاحتلال متلكئة ومترددة في حسم خياراتها لبناء جسم سياسي قادر على تسلم السلطة وجعلها ذات سيادة وذات فاعلية. ولابد من الاعتراف لهؤلاء وأولئك بأن هناك أسباباً موضوعية لقصورهم، فلا العمليات ضد الاحتلال تخوض نفسها في ظروف مواتية ولا هي مرت بتهيئة معمقة، ولا أهل"مجلس الحكم" تمرسوا في السلطة قبل ممارستها، وإنما هم يتعلمون وهم يعلمون وبعيداً عن الجدل بشأن شرعيتهم وتمثيليتهم فإن الأمر الواقع فرضهم، ولم يكن متخيلاً أن نرى آخرين مكانهم، فليسوا هم من وضع قواعد اللعبة بل إن قوة الاحتلال هي التي اختارت أن تهدم الدولة السابقة لتقولب دولة جديدة على أنقاضها، وبالتالي كان مفهوماً أن تعتمدهم، فراحوا يتلظون بأخطائها مثلما أنها تتلظى وراء تقصيرهم وأخطائهم.
التعددية يمكن أن تكون فرصة للعراق والعراقيين، ويمكن أن تكون كابوساً. إنها فرصة لأنها تحفز على اعتناق الديمقراطية، فلا نظام آخر سواها يمكن أن يجعل العراق قابلاً لأن يُحكم. وهي كابوس محتمل لأنها تفترض دوام الصراع والتنابذ، وتبقى أشباح الفرقة والتقسيم ماثلة في الأذهان والطموحات. سيحتاج الأمر إلى زعامات تاريخية، لكنه سيحتاج إلى وقت لإظهار مثل هذه الزعامات. وبين الفرصة والكابوس، الخيار للعراقيين، ولهم وحدهم،قبل الآخرين سواء كانوا أميركيين أو إسرائيليين أو سواهم.
ولأجل ذلك لابد أن تستوعب كل طائفة وكل فئة دروس تجربة قرن من العذاب لشعب يريد أن يعيش في هذه الأرض ويبني عليها حياة سوية وناشطة. كل التجارب المشابهة أثبتت أن الرابحين والخاسرين سواء عندما يتعلق الأمر بوطن واحد. طبعاً، كان السنة، كأصحاب سلطة حكموا العراق الحديث منذ تأسيس الدولة، أكبر الخاسرين. ومن شأنهم أن يتأكدوا بأن ما خسروه لن يعود إليهم بأي حال، خصوصاً أن النظام السابق أضاع كل الفرص لتجنب مثل هذه الخسارة التاريخية. وإذا كانوا يقاومون الاحتلال الآن أملاً في الحد من الخسائر، إلا أنهم مدعوون إلى عدم تفويت أية فرصة تسنح للتفاوض على وضعهم المستقبلي في البلد. في المقابل، يعتبر الشيعة أكبر الرابحين، وبمقدار ما يأتيهم ذلك بمكاسب بمقدار ما يحملهم مسؤولية في إعادة بناء الدولة وفقاً للمعطيات والإدراكات الجديدة..فهذه ليست "دولتهم" كما لم تكن دولة السنة. ومن شأنهم ألا يكرروا الأخطاء ذاتها. أما الأكراد الذين احتلوا موقعاً مهماً في معسكر الرابحين فإنهم سيخطئون إذا واصلوا الاعتقاد بأنهم يستطيعون أن يكونوا داخل العراق وخارجه في آن. فهذا لا يشوش عملية بناء النظام الجديد فحسب وإنما يشوش الدور الوسيط، والضروري، الذي يمكن أن يقوموا به في إنجاح صيغة التعايش المنشودة.
نعم، إن نقل السلطة لازم وضروري لأن واقع الاحتلال يفسد إعادة التأسيس للعراق. لكن الفئات العراقية مطالبة بأكثر مما أظهرت استعداداً له حتى الآن، سواء بالنسبة إلى إدارة البلد أو للشروع في بلورة "الشيء الوطني" الضائع بين ركام النظام السابق وأحذية جنود الاحتلال.