ليست هناك مسألة استقطبت في فرنسا على مدى الأسابيع القليلة الماضية اهتماماً أكبر مما استقطبه القانون المقترح الذي يحظر على تلميذات المدارس الحكومية الفرنسية ارتداء الرموز الدينية (البارزة) التي تشير إلى الانتماء الديني والعقائدي. وقالت المنظمات الإسلامية، التي تكثر في فرنسا وتنتمي إلى مختلف التيارات والنزعات ودرجات التطرف، إن حظر الحجاب يستهدف بالذات ارتداء التلميذات المسلمات الحجاب الإسلامي – وهو غطاء الرأس الذي يشار إليه في اللغة الفرنسية بعبارة ( Voile islamique ).
وقد صارت المسألة موضع جدل واسع على شاشة التلفزيون الفرنسي وفي الأعمدة اليومية في الصحافة، كما أطلقت شرارة المظاهرات والاحتجاجات في عدد من المدن الفرنسية، بل وفي أنحاء العالم أيضاً.
وستقوم الحكومة الفرنسية بمناقشة مسودة مشروع القانون في 28 يناير الجاري، وبعدئذ سيكون موضوع نقاش طويل في الجمعية الوطنية الفرنسية ما بين 3 و5 فبراير المقبل. وسيتم إجراء التصويت على مشروع القانون بعد مضي 5 أيام، أي في 10 فبراير؛ وسيتم إقراره ليتحول إلى قانون إذا أكّدت ذلك نتائج التصويت.
وقد صار الرئيس جاك شيراك، الذي كان ذات يوم حبيب العرب والمسلمين بسبب معارضته للحرب على العراق، عرضة للهجوم والانتقادات بسبب رعايته لإجراء يُعتَبر في رأي الكثيرين تمييزاً ضد المسلمين. فعندما اقترح شيراك لأول مرة مشروع القانون المذكور في شهر ديسمبر الماضي، كان تبني المشروع أمراً مسلّماً به ومفروغاً منه، لكن معارضته آخذة الآن بالنمو والتوسع. ويقول عدد من النواب الفرنسيين إنهم سيمتنعون عن التصويت، في حين يقول آخرون إن مشروع القانون ليست له ضرورة ولا فائدة، وأنه سيؤدي فقط إلى خلق المصاعب في المدارس ويهدد بخطر تحريض وتأليب مجتمع على آخر. وقالت بعض الأصوات البارزة إن مصطلح الرموز الدينية (البارزة) هو مصطلح غامض جداً وأنه يحتاج إلى مزيد من التعريف. ومن المعلوم أن عبارة الرموز الدينية تعني الصليب المسيحي والقلنسوة اليهودية وكذلك الحجاب الإسلامي. لكننا نسأل هنا: ألا ينبغي أن يحظر مشروع القانون (كل) الرموز الدينية على اختلاف أشكالها ومدلولاتها، سواءٌ أكانت بارزة أم لم تكن؟!
وقد تم منح نواب الحزب الحاكم في فرنسا حق التصويت الحر- أي أن الأعضاء لهم الحق في التصويت وفقاً لما يمليه عليهم ضميرهم، وليس وفقاً لرغبات الحزب. أما الاشتراكيون فيميلون إلى تأييد مشروع القانون، لكنهم لا يريدون الظهور بمظهر مَنْ يقدم المساعدة إلى عدوهم السياسي جاك شيراك. وقد يبادر هؤلاء الاشتراكيون أيضاً بمنح نوابهم تصويتاً حراً. ومن جهة أخرى، لا تريد الجمعية الوطنية، التي تفخر وتعتز باستقلاليتها، أن تعطي انطباعاً بأنها تنحني رضوخاً تحت الضغوط الآتية من مظاهرات الشوارع. ولكل تلك الأسباب بات الجميع يترقبون بكل اهتمام وحماس ذلك النقاش الذي من المقرر أن يدور في قاعات الجمعية الوطنية، على رغم أن حصيلة النقاش ما زالت غير مؤكدة إلى حد ما حتى الآن.
إن فرنسا جمهورية علمانية. وقد تم في عام 1905 إقرار قانون يقضي بفصل الكنيسة عن الدولة، وهو قانون يجسد في الحقيقة ذروة تراكم صراع طويل ومرير بين فئة (الإكليركيين) الساعين إلى توسيع نفوذ الكنيسة في الدولة وفئة (المناهضين للإكليركيين)، وكذلك أيضاً الصراع ما بين فئة أعضاء الجناح اليميني أنصار الملكية الكاثوليك وفئة الجمهوريين اليساريين أنصار وأتباع الفكر الحر. وتمتد جذور ذلك الصراع إلى أيام الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789. وقد تحقق للجمهوريين الفوز ومازالوا منذ انتصارهم يقاتلون في سبيل إبقاء الدين خارج دائرة الحياة العامة وحصره في دائرة الحياة الخاصة.
وقد تقاطرت إلى فرنسا على مدى العقود الماضية أعداد هائلة من المسلمين العرب الآتين من شمال أفريقيا، فأدى وصولهم واستيطانهم في هذا البلد إلى فتح باب الخلاف والجدل من جديد. وتقول التقديرات إن هناك الآن 6 ملايين مواطن في فرنسا من أصول مغاربية شمال أفريقية. وهكذا أصبح الإسلام الدين الثاني في البلاد. لكن الكثير من هؤلاء الوافدين يواجهون صعوبة في العثور على المسكن اللائق والأعمال والوظائف المناسبة وعلى مكانة محترمة في المجتمع الجديد، حيث يواجهون التمييز ضدهم بأشكاله الكثيرة ويميلون إلى السكن في الضواحي الفقيرة المحيطة بالمدن الكبيرة، وهي الضواحي التي تنتشر فيها الجريمة والعنف والاتجار بالمخدرات وتفتقر إلى الرقابة الصارمة وحفظ النظام.
أما البطالة بين هؤلاء الوافدين فتبلغ على الأقل ضعف معدل البطالة الوطني بين الفرنسيين عموماً.
ولذلك فإن مسألة الحجاب ليست في الحقيقة سوى وجه واحد من وجوه مشكلة أوسع بكثير، وهي مشكلة كيفية اندماج مجتمع الأقلية الوافدة في المجتمع الفرنسي الأكبر مع ما تحمل من القيم الدينية والثقافية والاجتماعية المختلفة.
ويؤكد الوزراء الفرنسيون أن المشكلة بقيت مهملة على مدى العقد الماضي، حتى عندما تضخمت موجة المهاجرين وتعاظمت. وقد طرأت